الظلاميون في دائرة المعركة الخاسرة

TT

صفق كثيرون من المثقفين العراقيين وبعض المثقفين العرب صفقوا ايضاً لسقوط الطغيان في بغداد ومن قبله لسقوط الظلامية المطلقة في افغانستان. ولكن أغلبية المثقفين والفضائيات كانوا عندئذ معارضين، بل هاجوا وماجوا ونادوا بالثبور وعظائم الأمور!.. وراحوا يكررون نفس المقولات الصدئة للآيديولوجيا العربية المهترئة. ونفس الشعارات الغوغائية التي أصمت آذاننا على مدار خمسين سنة سمعناها مرة اخرى. والآن بعد أن أخذ الأفق ينجلي قليلاً في العراق وبعد ان استبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، هل غير هؤلاء موقفهم يا ترى؟ الى حد ما. هل أيقنوا بأن اسقاط نظام مضاد لأبسط مبادئ الكرامة الانسانية كنظام صدام أو الطالبان كان لمصلحة البشرية كلها وليس فقط للشعبين العراقي والأفغاني؟ ربما أو هذا ما نرجوه على الأقل. ولكن كنا نتمنى لو أنهم لمحوا الحقيقة منذ البداية ولم يصروا على الخطأ والضلال ويعاندوا حركة التاريخ بشكل يدعو للدهشة فعلاً. وبعضهم لا يزال حتى الآن مصراً على غيّه وضلاله.. كان هيغل يعرِّف الفلسفة على اساس انها القبض على الواقع من خلال الفكر. بمعنى ان الفلسفة لا تضيع وقتها في الضبابيات والعموميات على عكس ما كنا نظن في بداية حياتنا الثقافية عندما كنا طلاباً في جامعة دمشق. وانما هي تتحدث عن اشياء محسوسة وملموسة، اشياء لها علاقة بالواقع المعاش. وكان هيغل يفهم الفلسفة على اساس انها تشخيص عميق لمشاكل الواقع في لحظة معينة من لحظات التاريخ ثم ايجاد العلاج للمرض الذي يعاني منه الواقع بعد ان نجحت عملية تشخيصه وتحديده بدقة.

وكان يقول بأن الفلسفة هي بنت وقتها، وان الفيلسوف الكبير هو فيلسوف المشكلة الواحدة. ففي كل عصر توجد مشكلة اساسية تتغلب على كل ما سواها ولكن لا أحد يراها! ثم توجد الى جانبها العديد من المشاكل الهامشية أو الثانوية التي تغطّي عليها والتي ينشغل بها المثقفون الصغار عادة.

وتكمن ميزة المفكرين الكبار في انهم لا يلهون أنفسهم ولا يضيعون وقتهم في المشاكل الثانوية. انهم يذهبون الى صلب الموضوع فوراً بعد ان ينكشف لهم مكمن العلة والداء العضال الذي يهدد أمتهم أو مجتمعهم. اذا ما طبقنا هذا التعريف على الواقع العربي أو حتى الاسلامي ككل فماذا نقول؟ اين تكمن المشكلة الاساسية يا ترى؟ انها تكمن في المعركة المفتوحة على مصراعيها بين الرؤية الاصولية الظلامية للعالم من جهة، والرؤية الحديثة لنفس العالم من جهة اخرى. كل ما يحدث في العراق وافغانستان وباكستان والجزائر والاردن، الخ. يمكن اختزاله الى هذه المعادلة البسيطة. كل شيء يتوقف على حسمها يوماً ما. ولو كان هيغل مثقفاً عربياً لأمضى كل وقته في دراستها. ولكن بما انه مثقف الماني عاش، أو كتب وفكر، في الثلث الأول من القرن التاسع عشر فإنه كرس جهوده لحل مشكلة الاصولية المسيحية مع العالم الحديث. وهذا يعيدنا الى نفس النقطة. من هنا أهمية هيغل وكانط من قبله وكل فلاسفة التنوير بالنسبة لنا. لا يمكن فهم أبي مصعب الزرقاوي وحقده على الحداثة وروح الحضارة وجوهرها الا اذا قارنته بجهابذة الاصوليين المسيحيين الذين أشعلوا نيران محاكم التفتيش في اوروبا، لا يمكن فهمه إلا اذا قارنته بأولئك الذين قطعوا لسان جيوردانو برينو لانه قال بصحة نظرية كوبرنيكوس ثم ألقوه طعمة للنيران بعد ان قطعوا جسده عضواً عضواً. ولكن اولئك الجلاوزة انتهوا وانتصر العالم الحديث. وبالتالي فمعركة أصوليينا خاسرة سلفاً مثلما خسرت معركة الاصوليين المسيحيين الذين حاولوا عرقلة حركة التاريخ. ولكن قبل ان يخسروا المعركة كم من الضحايا سوف يسقطون على الطريق؟ وكم من الدماء سوف تسفك؟ هنا ايضا نجد هيغل ينتظرنا على قارعة الطريق ويقول لنا: التاريخ لا يتقدم خطوة واحدة الى الامام الا بعد ان يدفع ثمنها. التاريخ لا يتقدم الا من خلال الصراع والعراك. بل ويقول لنا أكثر من ذلك عندما يلح على هذا المصطلح الشهير: مَكْر التاريخ. فالتاريخ لا يتقدم أحيانا إلا من أسوأ ابوابه، أو من ابوابه الخفية. انه بحاجة الى اشخاص من نوعية بن لادن والزرقاوي والظواهري لكي يكشفوا لنا بمجرد وجودهم عن سر المرض العضال الذي ينخر في احشاء التاريخ. فلولا وجودهم، لولا تطرفهم وغلوهم، لما أحس الناس بالحاجة الى توليد تفسير آخر للعقيدة غير التفسير الحرفي الجامد والسائد منذ مئات السنين. هنا يكمن مكر التاريخ: انه يتقدم عن طريق العلة نفسها. فالطالبان الذين حكموا سنوات قليلة فقط قدموا أكبر خدمة للشعب الافغاني. فبعد اليوم لن يقبل أبداً بالخضوع لحكم من هذا النوع. وبالتالي فالغلط ضروري وجوده لكي ينكشف الصح. والفجر يصبح مرغوبا أكثر كلما ازدادت حلكة الليل سواداً.

وهنا أعود مرة أخرى الى نابليون بونابرت أو بوش وبلير وبقية المجتمع الدولي الذي أخذ يلتحق بهما أخيرا. فالأمم المتحدة وفرنسا والمانيا اصبحت كلها متفقة على ضرورة قهر التنين الاصولي وسحقه في ارضه لأن المعركة ليست معركة اميركا وحدها وانكلترا وحدها وانما معركة البشرية المتحضرة كلها. هناك مجموعة من القيم الكونية التي اصبحت تفرض نفسها على مختلف شعوب الارض. وهي التي لخص زبدتها اعلان حقوق الانسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789 ثم عن الأمم المتحدة عام 1948. يقول هذا الاعلان الشهير مجموعة حقائق بدهية من بينها: انك لست مسؤولا عن مكان ولادتك أو لا ينبغي ان تدفع ثمن ولادتك الى أبد الدهر. فلم يخيرك أحد في ان تولد في عائلة مسلمة أو مسيحية أو يهودية أو بوذية أو هندوسية أو سنية أو شيعية أو كاثوليكية أو بروتستانتية... انت انسان قبل كل شيء ومخلوق من مخلوقات الله أياً يكن اصلك وفصلك أو لونك وعرقك. وبالتالي فكرامتك محفوظة بصفتك كائنا بشريا مثلك مثل اي كائن بشري آخر، لا أكثر ولا أقل. بعدئذ يحاسبك الناس على اعمالك سلبا أو ايجابا. ولكن ليس قبل ذلك. هذا هو المضمون الجوهري لحقوق الانسان ولكل فلسفة الحداثة والتنوير.

وهو يتناقض جذريا مع التصور الاصولي القائم على التمييز الطائفي أو المذهبي بين أفراد المجتمع أو بين البشر بشكل عام كما ويتناقض مع التصور العرقي أو العنصري الذي ساد في أوروبا إبان سيطرة الفاشية والنازية.

وأخيرا فلا ينبغي ان يتوهم الاصوليون عندنا انهم عباقرة أو مجددون، اذ يكفرون الديمقراطية. فقد كفرها من قبلهم معظم باباوات روما في القرن التاسع عشر وكل الاصوليين الكاثوليكيين المتزمتين، بل وكفروا الليبرالية وحقوق الانسان والعقلانية الفلسفية. واستطيع ان اقدم للقارئ فتاواهم بعد ترجمتها الى العربية، وهي لا تختلف في شيء عن فتاوى الزرقاوي وبن لادن. بل انها تستخدم نفس المحاجات اللاهوتية واحيانا نفس العبارات والالفاظ!. وسوف يشكل ذلك فصلا من كتابي عن «علم الاصوليات المقارنة» الذي ازمع نشره في الوقت المناسب ان شاء الله. وبالتالي فهم يمشون ضد حركة التاريخ بالمعنى الحرفي والهيغلي للكلمة. ولهذا السبب فسوف يهزمون مثلما هزمت من قبلهم أصولية أخرى ما كانت تقل جبروتاً ورعباً.