انتخابات المجالس البلدية: ما يحدث هنا.. ذلك هو المهم

TT

كان شعار الحملة الانتخابية للرئيس كلينتون عام 1992، هو «إنه الاقتصاد يا غبي»، وبهذه الرسالة المختصرة والقوية والمعبرة عن اهتمامات المواطن الامريكي، تمكن كلينتون من كسب المعركة ضد بوش الأب رغم شعبية الأخير التي وصلت إلى 90 في المائة في استطلاعات الرأي بعد اخراج صدام من الكويت.

ولا يسع المتابع لتغطية وسائل الاعلام الغربية لانتخابات المجالس البلدية في المملكة العربية السعودية، إلا ان يدرك أن خير وسيلة للتعريف بالمملكة في الخارج، هو ما تفعله المملكة من داخل المملكة، لا ما تبثه في الخارج عبر وسائل إعلان مدفوعة أو وفود منتدبة، فصورة الناخبين السعوديين وهم قوفٌ بملابسهم التقليدية في طوابير أمام صناديق الانتخابات، بعد الحملات الانتخابية التي اثارت اهتمام الناس، صورة لم يعتدها الاعلام الغربي، الذي طالما صور نظام المملكة بأنه نظام سلطوي متشدد يصادر الرأي الآخر.

ولعل في الذي حدث من تغطية اعلامية ايجابية، رسالة في الوقت المناسب لمعالي الأخ اياد مدني، بعد تولية حقيبة الإعلام، وهو الاعلامي المتمرس والمثقف الواعي، الرسالة مفادها: «العمل الصالح يتحدث عن نفسه دع الآخر يستمع».

فهناك أسلوبان لإيصال صورة المملكة إلى الخارج; الأول يجسده المثل الذي يردده الإخوة المصريون «لبس البوصة تبقى عروسة» والآخر يجسده قول المتنبي:

وفي البداوة حسن غير مجلوب

وعليك الآن يا اياد ان تختار، وأعانك الله على أجهزة حكومية، لا تريد منك إلا التغني بإنجازاتها، ولا تفرق بين الزبد وما ينفع الناس.

الانتخابات للمجالس البلدية آخر عمل صالح بدأ العالم المتحضر يراه رأي العين، دون طنطنة إعلامية من جانب المملكة، كان هناك الحوار الوطني الذي أتاح للأفكار المتنوعة ان تستنشق الهواء الطلق، وللصحافة السعودية أن تشهد انطلاقة غير مسبوقة في التعبير عن الرأي، وهناك الشفافية المطلقة التي طرحت بها مشاريع الاتصالات، وقبلها مشاريع الغاز، والتي كذبت الادعاءات القائلة إن المشاريع الحكومية الكبرى لا تكون إلا من نصيب المتنفذين.

وهناك النجاح الذي حققته اجهزة الامن في طريق القضاء على الارهاب، مع التحرك الواعي الذي يتحدث بلغة يقبلها القاصي والداني، ويقوده علماء يحسنون اختيار الكلمة الطيبة، وهناك الدور المتنامي للمرأة السعودية، والذي كان واضحاً من خلال مشاركتها الفعالة في الحوار الوطني، وفي الغرف التجارية ومجالس إدارات الشركات، هذه أعمال مشرفة يسهل تسويقها والمطلوب ان نتيح للعالم الاطلاع عليها.

إن ما افسده إرهابيو الابراج عام 2001 بطبيعة الحال، لا يمكن إصلاحه بين يوم وليلة، بل بالاستمرار في مثل تلك الاعمال الصالحة، والتي نحن في نفس الوقت بأمس الحاجة إليها. هناك مثلاً مسألة التخصيص التي تجسد نجاحها في قطاع الاتصالات، ولمسه الناس من خلال تخفيض الاسعار وتحسين الخدمة، على الرغم من ان ما طرح من اسهم الدولة يمثل 30% فقط من الشركة، وعلى الرغم من عدم بدء المنافسين بتقديم خدماتهم. ويتطلع المواطنون الآن إلى طرح أسهم الدولة كما وعدت في مجموعة سامبا المالية وسابك، ثم اسهمها في بقية البنوك وشركات الاسمنت والكهرباء والاتصالات، وأن يكون ذلك بأسلوب عادل وجريء يتيح للمكتتبين الحصول على ما يرغبون، وذلك بزيادة المعروض بدلاً من وقوفهم في طوابير طويلة للحصول على اسهم معدودة، وبدلاً من تحول المستثمرين الى الخارج. وقد بدأت بوادر ذلك خاصة مع تزايد فرص الاستثمار في دبي وقطر، ومع تحسن الاقتصاد المصري وإرهاصات التحسن في اسواق المال العالمية وارتفاع اسعار الفائدة. أما المؤسسة العامة للخطوط السعودية والمؤسسة العامة للصوامع، فقد طال انتظار تخصيصهما رغم وعد الدولة بالنسبة للأولى ورغم ما ينص عليه نظام الثانية الصادر عام 1972، والأمر الذي يجب ان نتذكره ونحن نتحدث عن التخصيص، هو أن نحذر من تضخم الجهاز الحكومي إذ ان التوسع في اقامة مجالس وهيئات حكومية جديدة يناقض التوجه نحو التخصيص.

والمسألة الأخرى هي الدين العام الذي لابد من السيطرة على استمراره وتقليصه، ما دامت اسعار البترول العالمية متحسنة ومع مُضيّنا في عملية التخصيص.

لقد جاءت الانتخابات البلدية للمجالس البلدية برداً وسلاماً بالنسبة للمتوجسين منها، سواء من المحافظين الذين يتهيبون ما يرون انه جديد، او جهاز الدولة الذي لم يكن لديه ضمان مسبق لما تنجم عنه التجربة، فقد تمت العملية لحد الآن بكفاءة يهنأ عليها من اشرف عليها ونظمها وشارك فيها، ولا شك انه بعد استكمال العملية ستظهر هناك دروس يستفاد منها.

وعندما أعلن عن خطوة الانتخابات الجزئية للمجالس البلدية كانت ردة الفعل عند كثير من المواطنين المتابعين للشأن الداخلي هي التساؤل: لماذا المجالس البلدية وليس مجلس الشورى أو المجالس المحلية؟ وللاجابة عن هذا التساؤل لا بد أن نتذكر أن الامر يتعلق بآلية صنع القرار السياسي في المملكة، وما يحيط به من تقاليد تحث على تجنب ما قد يثير الاختلاف ما أمكن، سواء على مستوى صانعي القرار او على مستوى من يتأثرون بذلك والركون بدلاً من ذلك الى ما سبق قبوله والإجماع عليه، هذه الآلية وهذه التقاليد تتعرض حالياً للاختبار بسبب الثورة في وسائل الاتصال، سواء عن طريق الانترنت أو المحطات الفضائية وبسبب ما يحدث في محيطنا العربي والدولي، والذي يضغط باتجاه توسيع المشاركة السياسية وحماية حقوق الإنسان، إذا كنا في الماضي نظن أن لدينا فسحة من الوقت تتيح لنا تأجيل اتخاذ القرارات ومواجهة التحديات، فالواضح ان هذه الفسحة ضاقت الى حد كبير.

لقد سهل الإقدام على هذه الخطوة انها تنفيذ لنظام قائم، صادر بقرار من مجلس الوزراء ومتوج بمرسوم ملكي، لذا فعند الحديث عما يتخذ من خطوات في المستقبل على طريق المشاركة السياسية للمواطنين ـ وهو أمر طرحته المملكة على الصعيدين الوطني والإقليمي ـ فانه يحسن البدء بالرجوع الى تاريخنا الحديث والبحث عما سبق الاتفاق عليه والانطلاق من هناك.

ويذكر كاتب هذه السطور في هذا المقام انه في خضم المنافسة في احدى انتخابات الغرفة التجارية في الرياض، ورفع شكاوى من قبل المجموعات المتنافسة، برز من خلال الجهاز الحكومي من اقترح الغاء فكرة الانتخاب كلية، وكاد الاقتراح يجد القبول لولا تذكر البعض ان عملية الانتخاب بدأت بصدور نظام الغرفة التجارية عام 1946 في عهد الملك عبد العزيز، وكان في ذلك فصل الخطاب، وبدلاً من الغاء الفكرة اتخذت خطوات لتلافي ما شاب تلك الانتخابات من ملاحظات. وهكذا، فإن ما سبق الاتفاق عليه خاصة في عهد الملك عبد العزيز بحكم انه امتد خمسين عاماً ـ يمكن البناء عليه، وفي ذلك درس لمن يستمرئون إلغاء أنظمة مستقرة ومطبقة وإحلال انظمة جديدة بدلاً من تعديل ما تقتضي الضرورة تعديله منها.

فنظام المحكمة التجارية الذي صدر في الثلاثينات من القرن الماضي، عالج أموراً كثيرة مستحدثة، بما فيها التأمين وهو ما زال قائماً، ولم يعدل إلا بمقدار ما صدر من انظمة تناقضه.

وفي سعينا لتطوير المشاركة السياسية للمواطنين ينبغي ألا نحسب كل ملاحظة أو نقد من الخارج إملاء أو ضغطاً نخجل من التجاوب معه. فعندما فتح الملك عبد العزيز مكة، كانت أنظار العالم الاسلامي كله متجهة الى تلك البقعة المباركة، فما كان من الملك عبد العزيز إلا ان دعا الى مؤتمر اسلامي، ودعا أهل مكة واخبرهم بأنهم أدرى بشعابها، وأن على التجار وأرباب المهن اختيار من يمثلهم في مجلس، وكانت النتيجة مجلس شورى له من الصلاحيات ما هو أوسع مما للمجلس الحالي، فعلى المطالبين بزيادة صلاحيات المجلس الحالي، الرجوع الى ما بدأه الملك عبد العزيز والبناء عليه. وكذلك على المطالبين بشفافية أكثر في ميزانية الدولة، الرجوع الى ما جرى عليه العمل حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي، عندما كانت توزع مجلدات الميزانية وتنشر تفاصيل الابواب لكل جهاز حكومي بدلاً من كل قطاع.

وإذا رجعنا إلى برنامج الإصلاح الذي اعلنه الملك فيصل عام 1962، بما في ذلك الغاء الرق وإنشاء وزارة العدل، فإن ذلك لم يكن بمعزل عما كان يحدث في اليمن والمنطقة، وما كان ينادي به الرئيس كينيدي. ما فعله الملك عبد العزيز وما فعله الملك فيصل إنما هو تحرك وتفاعل مع ما يستجد من ظروف، وليس بالضرورة استجابة لإملاءات من الخارج.

وفي الختام، لا بد أن نتذكر أن الحكم في المملكة لم يفرض من قوة استعمارية بريطانية أو فرنسية أو إيطالية، وأن العائلة الحاكمة لم تزف الينا من ألبانيا، وإنما هي من قلب هذا الوطن، وكان عليها ان تقيم مؤسساته وترعاها، ولديها ولدى المواطنين الشجاعة والقدرة على الاستمرار في ذلك.

* وزير تجارة ووزير مالية سابق بالسعودية