فعلاً فريدمان: من يمتلك القدرات والخبرات والحوافز لقتل الحريري؟

TT

لدى سماع دويّ الانفجار المروّع في بيروت الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني الشهيد رفيق الحريري في 14/02/2005، أخذ أبناء بيروت والصحافيون المقيمون هناك ينظرون في الأفق ليكتشفوا ما إذا كانت الطائرات الإسرائيلية، والتي تخرق الأجواء اللبنانية بشكل شبه يوميّ، قد سببت هذا الانفجار، في حين تسابق مخططو عملية الاغتيال لتنفيذ الأهداف المتوخاة من هذه العملية، حيث تمّ توزيع الأدوار لتوجيه أصابع الاتهام بالسرعة الكلية لسورية! أمّـا نحن العرب الذين تسمّرنا أمام شاشات التلفاز فقد روّعتنا مشاهد النار والدخان، والجثث المحترقة، والمباني المدمّرة وهي تعود من جديد لأجمل عواصمنا العربية، بعد أن اعتدنا على مشاهدتها يومياً في المدن العراقية بعد الاحتلال الأمريكي، وفي المدن الفلسطينية منذ قرن، وفي بيروت نفسها خلال الحرب الأهليّة والتي وضعت سورية وبالتعاون مع القوى الوطنية اللبنانية حدّاً لها، قبل أن تعود بفعل عوامل عديدة، أهمها المخطط الدولي، إلى الانقسام الحاد من جديد. وبالنسبة لأبناء هذه المنطقة فإن مشاهد الانقسام اللبناني تُعيد إلى الأذهان كابوس المجازر والاغتيالات المتبادلة بين الأخوة، وكذلك كابوس الأطماع الأجنبية التي لم تتورع سابقاً، ولن تتورع حالياً، ولا مستقبلاً عن زرع الفتنة، وارتكاب المجازر، وعلينا أن نتذكر صبرا وشاتيلا، وقانا، وجنين، ورفح، والفلوجة..الخ وعلينا أن نتذكر مجازرهم، وضحاياهم من الأطفال والمدنيين في رام الله، وغزّة، وجنين، والرمادي، وبعقوبة وغيرها. وبدا هذا الحدث الجلل لكلّ العرب نقلة نوعية خطط لها أعداء هذه الأمة ونفذوها، بدقّـة متناهية في تحديد الهدف وزمن وشكل القتل، لنقل الزعزعة والفوضى من فلسطين والعراق إلى لبنان وسورية، مما يعيد إلى الذاكرة حوادث الاغتيال المتسلسلة، التي ارتكبتها أجهزة استخبارات دولية وحلفاؤها في المنطقة، للتخلص من قادة عرب، ولبنانيين بالذات، ولخلط الأوراق في المنطقة، والتي طالت الرئيسين رشيد كرامي ورينيه معوّض، وعباس الموسوي وغيرهم قائمة طويلة استشهدوا على أيدي أجهزة دولية لديها مجرمون مختصون بتدبير حوادث الاغتيال وتنفيذها بدقة لا يتركون بعدها أثراً وذلك لتحقيق أهداف إقليمية ودولية.

وبعد ساعات من الحدث أذاع تلفزيون البي بي سي البريطاني أنّ «نوع الانفجار والمواد المستخدمة متقدّمة جداً وقد تمّ استخدام تقنيات متطورة» وفي إعلان لحركة السلام الأوروبية التي عقدت اجتماعاً في برلين صباح يوم الثلاثاء 15/2/2005 وحضره جنرالات وخبراء أوروبيون رجّحوا أنّ المتفجرات التي استخدمت في الانفجار الذي أودى بحياة الشهيد الحريري «على صلة مباشرة باختفاء أربعة آلاف طن من المتفجرات الشديدة الانفجار والحرارية من العراق بعد الاحتلال الأمريكي». وهي التي ذكرت وسائل الإعلام في حينها أن أميركا صمتت عن هذا الاختفاء المريب، وخاصة تلك المعلومات المؤكدة عن تسليم الموقع لقوة إسرائيلية رافقت القوات الأمريكية المحتلة، والتي قامت بنقل المواد إلى إسرائيل. ويؤكد المحللون أنّ المواد المستخدمة في الانفجار الذي أودى بحياة الشهيد الحريري لا تمتلكها إلا جهات دولية وإقليمية ذات مقدرة وخبرات عالية في هذا الميدان. والجميع يعرف من هي الجهات الدولية التي امتلكت القدرة على التخطيط لإسقاط حكومات ديمقراطية مثل حكومة الرئيس مصدق وحكومة الرئيس الليندي وكلنا نعرف من دبّـر ونفـّذ اغتيال رشيد كرامي ورينيه معوّض وعباس الموسوي وغيرهم الكثير في لبنان، ونعرف من هي الدول التي أعطت أجهزة مخابراتها صلاحية تنفيذ الاغتيالات، ومن هي الدول التي تناقش وتعلن قوائم اغتيالات مسبقاً ومن ثمّ تنفّذ هذه الاغتيالات في مدن فلسطين، وفي شوارع بيروت ودمشق، وعلى مرأى العالم ومسمعه. وكلنا يعرف من هي الدول القادرة على تنظيم العصيان المدني في إيران وتشيلي وفنزويلا وغيرها قائمة طويلة من الدول التي دفُنَِت فيها الديمقراطية وتمّ تنصيب طغاة دمويين لأنهم «أصدقاء».

أما الحافز الأساسي لجريمة الاغتيال فهو الهدف الاستراتيجي في تحقيق وجود عسكري دائم في دول المنطقة كلها! فقد أصبح جلياً للجميع اليوم أنّ المبرر لدخول أميركا العراق ليس «الحرية»، ولا «الديمقراطية»، ولا حتى «أسلحة الدمار الشامل»، وليس بالتأكيد «الشعب العراقي» الذي قـُتِلَ منه حتى اليوم ما يزيد على مئة ألف مدني في المجازر بالفلوجة والنجف وسامرّاء وغيرها وفي أقبية التعذيب في أبو غريب وغيرها والذين لم يأبه أحد حتى بعدّهم أو ذكرهم، وإنما السبب الحقيقي هو خلق قواعد عسكرية دائمة في العراق وفي تلك الدول التي ما زالت خارج العبودية الأجنبية في المنطقة. من هنا تبدو العلاقة السورية اللبنانية عقبة لمن يخطط للسيطرة على لبنان ضمن مخطط نشر القواعد العسكرية في جميع أرجاء العالم، ومنها المنطقة العربية فليس هدف هذا المخطط الحرص، كما يدّعون، على «الحريّة» أو «الديمقراطية» أو«السيادة» في لبنان فالمعارضة الوطنية في لبنان جزء من الحياة السياسية الديمقراطية التي ساعدت سورية على إعادتها إلى لبنان، ولكن الهدف من المخطط المعادي الحالي هو استباحة حريـّة واستقلال وسيادة ووحدة لبنان وتأمين موانئه ووضعها في خدمة الوجود العسكري الاستراتيجي في المنطقة.

والغريب أن فريدمان في مقالته في «الشرق الأوسط» بتاريخ 18/2/2005: «ما بين قواعد حماة... وقواعد بغداد»، وبعض أعضاء الكونغرس وغيرهم من الإعلاميين والساسة الغربيين يعطون الانطباع بأنهم منشغلون بالدفاع عن «الحرية» في دول معينة بذاتها، وهي البلدان التي احتلوها أو التي يريدون بسط احتلالهم عليها في حين يتجاهلون قضايا الحرية الحقيقية مثل قضية الشعب الفلسطيني المكافح منذ قرن من أجل الحرية والاستقلال من الاحتلال الاستيطاني الوحشي الذي يدعمونه بالمال والسلاح و الحماية.

وإذا كان فريدمان وأمثاله حريصين على حرية العرب فلماذا لم يكتب مقالاً واحداً عن العلماء العراقيين والأكاديميين العراقيين الذين اغتالتهم القوى التي تتبنى الاغتيالات كخطـّة لتغيير وجه المنطقة واستسلامها؟ ولماذا لم ينع مدينة بابل التي تشكـّل جزءاً هاماً من هوية العراق وإرثه الحضاري؟ وإذا كان الإعلام حراً في أميركا كيف يجنـّد الإعلاميون أقلامهم، ليصبحوا أبواقاً لما تريد إدارتهم تنفيذه من أفغانستان إلى العراق وإلى لبنان وسورية اليوم؟

إن اغتيال الشهيد الحريري هو إشارة انطلاق لمخطط الاستيلاء الأجنبي المعادي على لبنان والذي توضـّحت معالمه بالتصعيد ضدّ سورية. فالذين خططوا للاغتيال ونفذوه بدقـّة، أسلوباً وتقنيةً وتوقيتاً، خططوا أيضاً لتداعياته والتي تستهدف أول ما تستهدف أمن واستقرار لبنان، والعلاقة السورية اللبنانية. وإذا كان اكتشاف منفذ الجريمة يتحقق من خلال معرفة المستفيد منها فإن أول المستفيدين من هذه الجريمة هم أنفسهم المستفيدون من احتلال فلسطين والعراق وزعزعة الاستقرار في لبنان واستهداف سورية وتمزيق العرى الوثيقة بين الشعبين اللبناني والسوري. لقد كان الشهيد رفيق الحريري واعياً لهذه المخططات، ويقف ضدّها، وإزاحته بهذه الطريقة الدموية المدوية من المعادلة اللبنانية تمهّد الطريق لقوى دولية وإقليمية معروفة للجميع بقدراتها، وخبراتها، وحوافزها، لتنفيذ مخططات الاستيلاء على الشرق الأوسط من أجل تأمين إسرائيل واستنزاف ثروات المنطقة وانتهاك حرية العرب واستقلال وسيادة بلدانهم. وذلك عبر تهيئة الظروف للاحتلال وبناء القواعد والموانئ العسكرية من جديد وكلّ هذا يتم هذه المرّة باسم «الديمقراطية»، و«الحرية» بعد أن كان يتم باسم مكافحة الشيوعية حيناً، أو مكافحة الإرهاب، أو أي مسمى آخر. غريبٌ جدّاً أن لا يتذكر فريدمان الفلوجة وماي لاي وأبو غريب وغريب جداً أن ينسى مصدق واليندي ورينيه معوّض وغيرهم الكثير من القادة والمجازر والمواقف التي توضّح له من له القدرات والخبرات والحوافز لقتل الشهيد الحريري.