الحكمة والعقلانية.. وفاء للحريري

TT

الزلزال الذي نتج عن استشهاد الرئيس رفيق الحريري، في جريمة بشعة نكراء تتسم بالخسة والتخطيط المحكم، والذي ما زلنا نشعر بهزته في عقولنا وقلوبنا وبوطأة تبعاته المادية والنفسية والسياسية، لا يرجع فقط إلى حبنا وتقديرنا لرفيق الحريري، ولكن أيضا لإدراكنا للفراغ الكبير، الذي تركه والذي سرعان ما ستحاول قوى ـ بعضها خيّر وبعضها الآخر شرير ـ ان تملأه، فيدخل لبنان، وبالتالي المنطقة، في دوامة تضيف إلى آلامهم آلاما، والى معاناتهم معاناة، مما لا يرتاح له إلا الأعداء.

ومن الضروري أن نتفق قبل كل شيء على الفرق بين العدو، الذي لا يريد لنا إلا الشر، والطرف الذي قد نختلف معه ونرفض سياساته أو ممارساته، ولكننا لا نرفضه أو نرفض وجوده، ولا نريد إلا الخير له ولنا. وبهذا المفهوم فإنه من اللازم على كل من بكوا الحريري، وتعاهدوا على الحفاظ على رسالته، ورفعوا صوره وعددوا مناقبه أن يتذكروا ما الذي يمثله حقيقة.

لقد كان الحريري يمثل أنبل المعاني وأعظم المقاصد. كان الإنسان الذي يحب أن ينشر الخير حوله. وكان السياسي الذي يمارس نوعا من السياسة غريبا على الكثيرين، لأنه يقوم على الخدمة العامة والرغبة في نشر العلم والمحبة والاعتدال والتوازن والاتزان. وكان الوطني الذي يؤمن بوطنه الصغير ويعمل على رفعته ورخائه، ويساهم في إعادة بنائه بعد مآسي الماضي، ويرفض الطائفية. وكان القومي الذي يخلص لوطنه الكبير وأمته العربية، والمصالح المشتركة التي تترجم الإخاء إلى نماء، وتصد كيد الكائدين. كان يختلف بشرف، ويتفق بكرامة، ويناضل برجولة، وكان يصادق بشهامة ويعادي برجولة وبخلق وصراحة.

ان الظرف الدقيق الذي يمر به لبنان يحتم أن تكون تلك الصفات، هي ما يتحلى به كل الذين على الساحة، فمن حقهم أن يختلفوا، ومن حقهم أن تتباعد مواقفهم أو تتقارب، وان تتضارب وجهات نظرهم، ولكن عليهم دائما أن يتجاوزوا الرؤية الضيقة إلى الأفق الأوسع، وان يتجنبوا الاقتتال الذي كاد في يوم من الأيام ليس بعيدا أن يقضي على لبنان، والذي لن يصيب الذين ظلموا خاصة، بل سيمتد لهيبه إلى الجميع، فيتحول مبدأ «لا غالب ولا مغلوب» إلى حقيقة أن الجميع مغلوبون وخاسرون، ومعهم أشقاؤهم وأصدقاؤهم وجيرانهم.

ويهمني في هذا الصدد أن أشير إلى أمور أعبر بها عن بعض ما أشعر به كمواطن عربي، حريص على كل قطر عربي، مؤمن بأن مصلحة الأمة تختلط بمصلحة كل جزء منها بغير استثناء، وأن مصلحة الجزء وثيقة الصلة بمصلحة الأمة كلها.

1ـ أن لبنان وشعبه قادرون على أن يتولوا أمورهم بأنفسهم، وجديرون وراغبون في ذلك، ولا يحتاجون إلى سواعد غير سواعدهم، او وجود أجنبي، صديقا أو عدوا. وقد مر لبنان بتجربة سمح فيها لغيره أن يجعله ساحة معاركه السياسية والإعلامية والعسكرية، فكان ما كان، وما يمكن أن يكون إذا عادت عقارب الساعة إلى الماضي.

2 ـ أن التدخل العسكري السوري كان بناء على طلب لبناني، وقام بدور مهم في الإسهام في إعادة الهدوء، الذي تأكد باتفاق الطائف، وبعد مرور كل تلك السنوات، فإنه اصبح من الملائم، بل من الضروري، أن تتخذ العلاقات السورية اللبنانية شكلا طبيعيا يجمع بين الاحترام الكامل للسيادة اللبنانية، وبين العلاقات الوطيدة، الخاصة التي يجب أن تسود بين الدولتين المستقلتين.

3 ـ وفي هذا الصدد، فإنه يجب الترحيب ببعض الخطوات التي اتخذتها سوريا في هذا الصدد، بدءا من تخفيض حجم وشكل التواجد العسكري في لبنان، ونقل ملف العلاقات بين البلدين إلى نائب وزير الخارجية، بدلا من تركه في يد سلطة عسكرية. هذه الخطوات يجب أن تستمر وتتسارع لصالح سوريا ذاتها، وسدا للذرائع التي تُستغل ضدها، وتجنبا للتعرض لضغوط خارجية لا تستهدف خير سوريا أو خير لبنان، بل تبتغي تحقيق مصالح دولية وإقليمية مشبوهة. ولا يفوتني في هذا الصدد أن أكرر أن القرار 1559 لم يكن مبررا ـ بل قد يكون مشكوكا في مدى قانونيته ـ ولكنه على أية حالة، صدر عن مجلس الأمن، وبالتالي فإنه إذا كان من حقنا أن نجادل فيه، فإننا يجب ألا ننسي أننا كنا وما زلنا ننادي بالنسبة لقضايانا الأخرى بالشرعية الدولية، متمثلة في قرارات مجلس الأمن، كما أننا قبلنا أحيانا ـ كما بالنسبة للعراق ـ بقرارات من المجلس، يراها البعض منا غير متمشية مع ميثاق الأمم المتحدة.

4 ـ يضاف إلى ذلك أن الوجود السوري مصدر من مصادر ـ أو ذريعة من ذرائع ـ الاحتقان الداخلي في لبنان، وبالتالي فإن إنهاء هذا الوجود بالاتفاق والتراضي، من شأنه الإسهام في إزالة هذا الاحتقان، بعكس ما قد يصوره البعض. والشعب اللبناني قادر عندئذ على أن يجد الصيغة المناسبة للتعامل بين تياراته، وأيضا التعامل مع الجارة الشقيقة.

5 ـ يجب أن يتم التفاهم على ذلك قبل الانتخابات التشريعية المقبلة، حتى لا يصبح موضوعها بين المعارضة والموالاة هو الوجود السوري، بل أسلوب إدارة الحياة السياسية اللبنانية، ضمانا للشرعية والوئام والمصلحة المشتركة لكل طوائف الشعب في البناء والرخاء، في هدوء ووئام واحترام كامل لاستقلال لبنان.

6 ـ ويستلزم هذا أمرين أساسيين: أولهما، احترام النظام الدستوري احتراما صارما، والتعاهد على عدم اللجوء مستقبلا إلى أسلوب التعديلات التي تنطلق من اعتبارات وقتية ليست حتمية. وثانيهما، أن يجري التحقيق سريعا وشفافا لاكتشاف المجرمين في حق لبنان ذاته الذين اغتالوا الحريري، وكل ما كان يمثله وجوده، وما أرادوا أن يسببه غيابه من فراغ وتوتر. ويجب أن تكون سلطات التحقيق اللبنانية على مستوى المسؤولية بدلا من الدعوة إلى أن تتولى الأمر جهات أجنبية، علما بأنه ليس هناك ما يمنع من الاستعانة بخبراء أجانب، ويكون من العار لو احتاج الأمر لكشف الحقيقة الى الاستعانة بمحققين أجانب واستبعاد من يجب أن يتحملوا مسؤوليتهم وان يثبتوا أهليتهم وقدرتهم. يجب على الحريصين علي استقلال لبنان أن يحرصوا على ان يثبت لبنان قدرته على استبيان الحقيقة، ومحاسبة الجناة أيا كانوا، لأنه من دون ذلك يصبح الحديث عن الاستقلال أضحوكة في موقف لا يقبل الضحك، ويصبح التغلب على دوافع الغضب ـ وربما التهور ـ وتجاوز الإحساس بالعجز، أمرا مستحيلا مع ما يترتب على ذلك من تداعيات نرجو أن يجنب الله شعب لبنان وطأتها.

الوفاء الشديد للشهيد يقتضي التصرف بحكمة وعقلانية. ومصلحة لبنان وسوريا أن يتحركا معا في الاتجاه الصحيح. وواجبنا جميعا أن ندعو وندفع إلى هذا بكل الحب والأمل والروح القومية الاصيلة.

* وزير خارجية مصر السابق