التلفيق الدبلوماسي يمكن أن يضر أوروبا وأميركا

TT

سأل مذيع هيئة الإذاعة البريطانية زميله المراسل، الذي كان يغطي، من بروكسل، الجولة الأوروبية للرئيس الاميركي: «هل وافق بوش على إصلاح طريقه في أوروبا؟»، وكان الرد «ربما، الجميع هنا يأمل ذلك».

ربما اعتبر الرئيس جورج دبليو بوش اول جولة خارجية له منذ بداية ولايته الثانية، وسيلة لاقناع الدول الاوروبية، التي عارضت تحرير العراق بتناسي الأمر، والانضمام للولايات المتحدة في هدفها المعلن «بمد حدود الديمقراطية». ولكن بعد خطاب رصين في قاعة مزخرفة في بروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الاوروبي، وبعد اللقاء الشخصي مع كل من الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الالماني جيرهارد شرودر، لا توجد اية اشارة على ان بوش قد نجح في اقناع «اوروبا القديمة» بتعديل مسارها، بغض النظر عما يفضل من دونالد رامسفلد الجديد قوله، إذ ان رامسفلد اشتهر بتعبير «اوروبا القديمة»، ولكنه رد على سؤال خلال زيارة اخيرة له الى اوروبا، حول ما اذا كان لا يزال يهاجم اوروبا القديمة فقال: لا، ذلك كان رامسفلد القديم.

والصورة المطروحة في «اوروبا القديمة»، هي صورة بوش التائب، الذي يعترف بخطئه ويطلب المساعدة. غير انه اذا لم تواجَه هذه الصورة بطريقة فاعلة، فإنها يمكن ان تضر ضررا كبيرا بخطة بوش الكبرى، التي تشمل تغيير الوضع الراهن في الشرق الأوسط بغية الديمقراطية، واغراء روسيا بالاتجاه نحو حكم القانون، والضغط على الصين لاحتضان التغييرات الديمقراطية ووقف انتشار الاسلحة النووية.

والحق انه من الصعب العثور على تفسير مقنع لمدى الحاجة لمثل هذه الجولة في مثل هذا الوقت. والذين نصحوا الرئيس بالقيام بمثل هذه الزيارة، ربما اتخذوا قرارهم بناء على افتراضات خاطئة، اولها ان اوروبا تقف ضد الولايات المتحدة بطريقة تهدد اسس التحالف الاطلسي. المؤكد ان ذلك ليس صحيحا. فمعظم دول الاتحاد الاوروبي (25 دولة) تؤيد الولايات المتحدة، سواء في افغانستان أو العراق. ومعظم دول الاتحاد ساهمت في تحرير افغانستان، وأكثر من نصفها عضو في التحالف في العراق. إن اربع دول فقط (فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبرغ)، هي التي تعارض تحرير العراق. ودولة واحدة فقط، هي فرنسا، تشن حملة ناشطة لشق مجلس الأمن، في ما يتعلق بكيفية التعامل مع صدام حسين.

الافتراض الزائف الثاني، الذي قاد الى جولة بوش الاوروبية يتلخص في ان العلاقات بين اوروبا والولايات المتحدة، كانت خالية من التوتر حتى وصول جورج بوش الى البيت الابيض. إلا أن الحقيقية هي أنه حتى في قمة الحرب الباردة، عندما كانت الاسلحة النووية السوفياتية خطرا يهدد بنسف اوروبا الغربية بكاملها، كان العداء لأميركا منتشرا وسط كثير من الاوروبيين. فقد سحب الجنرال شارل ديغول، الذي كان مؤيدا لصيغته الخاصة بـ«الطريق الثالث»، فرنسا من حلف شمال الاطلسي (الناتو) في وقت تصاعد خلاله التوتر بين الغرب والكتلة السوفياتية. اما ويلي برانت، مستشار ألمانيا الاسبق، فقد تبنى سياسة يعتقد البعض انها ساعدت على تطويل أمد الانظمة الشيوعيةإ في شرق ووسط اوروبا لعدة سنوات اخرى، رغم معارضة الولايات المتحدة لهذه السياسة. كما ان غالبية اليسار الاوروبي، ومن ضمنه جزء كبير من حزب المستشار جيرهارد شرودر، شارك في حملة مناهضة لنشر صواريخ بيرشينغ التي جلبت لمواجهة صواريخ «اس اس ـ 20» السوفياتية التي كانت موجهة الى المدن الألمانية. الافتراض الزائف الثالث الذي ربما ساهم في التخطيط لجولة بوش الاوروبية، يقوم على اساس ان بوش هو اول رئيس اميركي يثير حنق الأوروبيين من خلال «دبلوماسية رعاة البقر» التي يتبعها. والواقع اننا اذا ألقينا نظرة سريعة على الماضي، فسوف نلحظ ان هذا المصلح هو ذاته الذي استخدمه الكثير من الاوروبيين، خصوصا في فرنسا وألمانيا، لمهاجمة الرئيسين الاميركيين الأسبقين ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان. معرفة السبب في ذلك لا تحتاج الى الكثير من الاجتهاد، ذلك ان انصار اوروبا القديمة يرغبون في وجود رؤساء أميركيين على النمط الاوروبي مثل جيمي كارتر وبيل كلينتون.

الاسبوع الماضي، وفي سياق حديث له حول حرب العراق، قال خوسيه مانويل باروسو، رئيس المفوضية الاوروبية: «لو أن كلينتون والليبراليين هم الذين في السلطة، فإننا ربما لم نكن لنتعرض لما تعرضنا له من انتقادات». ولكن يمكن القول ايضا، انه لو كان هؤلاء هم الذين في البيت الابيض فربما لم يكن العراق ليتحرر في المقام الاول.

من المهم بالنسبة للسياسة الأميركية فهم أسباب هذا الوضع. أحد الاسباب يتمثل في أن «أوروبا القديمة»، التي تفتقر الى القوة العسكرية التي يعتمد عليها، ترغب في تأكيد مزايا «القوة المعتدلة» التي تعني احتضان المستبدين وتقديم الدعم لهم. والمشكلة أنه بينما يمكن أن تكون القوة المعتدلة نافعة في بعض الأحيان، فإنها تغدو عكس ذلك عندما يجري التعامل مع أنظمة لا تدرك السياسة، باعتبارها فن الأخذ والعطاء. هناك أنظمة لن توقف مسيرتها التدميرية ما لم تصطدم بشيء صلب.

وغالبا ما تعتبر نزعة معاداة أميركا الملاذ الأخير لكثير من السياسيين ممن تعوزهم الأفكار في «أوروبا القديمة» وأماكن أخرى. ففي العامين الماضيين أفلح شيراك وشرودر، اللذان عانيا من سلسلة من الهزائم الانتخابية، في ابقاء مؤيديهم المتشددين متوافقين مع النزعات المناوئة لأميركا. وخلال جولته الأوروبية ربما كانت لدى الرئيس بوش لقاءات عشاء جيدة قليلة. غير أنه في اطار السياسة العملية فإن النتائج كانت محدودة، وهذا أقل ما يقال. فقد تخلت «أوروبا القديمة» عن معارضتها لتدريب قوات الشرطة العراقية الجديدة، لكنها عرضت تدريب 800 فقط من اصل 75 ألفا، وعلى ان يتم التدريب خارج العراق. ولن يتخلى الاتحاد الأوروبي عن وهمه بأنه قادر على اقناع رجال الدين في طهران، بالتخلي عن مذهبها الدفاعي القومي عبر القسم الكاذب بشأن «القدرة الكبيرة»، في مجال الأسلحة النووية. وحتى عندما وصل الأمر الى دعم الانتفاضة الديمقراطية اللبنانية، لم يكن شيراك، الذي تحدث بعد عشائه مع بوش، ليذكر سورية بالاسم، على الرغم من حقيقة أن فرنسا والولايات المتحدة كانتا راعيتين لقرار مجلس الأمن المرقم 1559، غير ان بوش ذكر سورية بالاسم ودعا الى انهاء وجودها العسكري في لبنان.

خلاصة القول هي ان التحريض على التلفيق الدبلوماسي باسم التفاهم في اطار الاطلسي، ليس في مصلحة الولايات المتحدة ولا أوروبا القديمة والجديدة. وما هو أسوأ يتمثل في ان هذا التفاهم قد يبعث بإشارة خاطئة الى الأنظمة التي تحتاج الى تغيير سياساتها وسلوكها لصالح الحرية والسلام.