حكاية عبد الحارس ومارينا

TT

فيخضم الأحداث الجسام التي تجتاح العالم في كل ساعة من ساعات اليوم الاربع والعشرين، قد تبدو اية حياة فردية بلا قيمة خاصة، أو أهمية ينبغي التوقف عندها. ولكن يخيل الي أن كل كائن حي مهما صغر شأنه، يمثل عالما متراميا من الدراما الباطنية تماما مثل عصفور صغير يطير من غصن الى غصن يلتقط قشة من هنا واخرى من هناك، ويعود ادراجه مئات المرات لكي يبني عشا صغيرا، ما ان يفرغ من بنائه حتى يتعالى غناؤه في الفضاء، وكأنه يصيح صيحة النصر.

أعجب من هواة تسلق قمم الجبال. ويشتد عجبي من نساء وفتيات يخترن طواعية ان يبحرن حول العالم بلا انيس، ولا جليس في مركب تلاطمه الامواج، وتلفه ظلمة الليالي، وتتهدده اسماك القرش وما شابهها. ولكني اكن لكل هؤلاء احتراما واجلالا واعجابا. كذلك شعرت نحو مارينا الالمانية، التي انسلخت عن ماض أليم، وبنت عشا صغيرا دافئا في أسوان.

مارينا كانت مثل آلاف الطيور، التي تهاجر الى الدفء شتاء، ثم تعود الى مواطنها في الربيع. غير انها هاجرت من الشمال الى الجنوب، واستقرت جنوبا وكأنها خلعت ثيابها الشتوية بلا رجعة.

سمعت أن مارينا تزوجت ألمانيا، وعاشت معه عمرا. ولم تمن عليها الحياة بأولاد. وبعد عشرة السنين هجرها الزوج، فوجدت نفسها وحيدة وحزينة وناقمة. قررت أن تسافر حول العالم، ربما بحثا عن حلم جديد، وربما هربا من الماضي.

وجاءت الى اسوان ففتنتها الشمس، وسحرتها الطبيعة، وناداها الهدوء. ووجدت بنت الشمال في الوجوه السمر والكبرياء الهادئة، الذي يتمتع به ابناء الجنوب جوابا على تساؤلاتها عن معنى الوجود واسبابه. وكان عبد الحارس مرشدا سياحيا يتكسب من سرد فصول مضت من تاريخ مصر، على ضفاف النيل الساكن، الذي ينساب في هدوء، شاهدا على ملايين القصص والحكايات والدموع والبسمات. أعجبها هدوؤه واستهوتها رجولته. فمستها عصا الحب. ولكن عبد الحارس كان متزوجا من حسنة ابنة عمه النوبية، وأم أبنائه الاربعة. وهو رجل محدود الموارد. ولم ينكر أن طيبة مارينا استوقفته، كما استوقفه شعرها الاشقر، وعيناها وقوامها وصراحتها. تزوجها. وحزنت حسنة، ولكن مارينا ذهبت الى حسنة، وقالت لها سوف ابني لي بيتا، وأبني لك آخر، وسوف يكون اولادك هم الاولاد الذين لم تنعم علي الدنيا بولادتهم. فوافقت حسنة، واستقرت الحياة، وأصبحت المرأتان حليفتين، حتى اثناء غياب عبد الحارس في أوقات العمل.

أبديت دهشتي، فقالوا لي إن مارينا امرأة طيبة، سوف تغيب شمس حياتها يوما، وتبقي الارض لعبد الحارس وحسنة واولادهم، لأنهم طين من طينها ونبض من نبضها.

حين تغيب شمس حياتها من يكتب قصة مارينا؟ وماذا يتبقى من ذكراها؟ هل يبني لها عبد الحارس قبرا على قمة جبل، ويصبح القبر مزارا سياحيا يزوره عشاق الرومانسية، ويضعون عليه الزهور، كما يزورون قبر الاغاخان، الذي دأبت البيجوم على زيارته يوميا، لكي تضع عليه وردة حمراء رمزا للحب والوفاء؟

قصة مارينا وعبد الحارس لم تكتمل بعد. حين يكتب فصلها الاخير سوف يحملها نيل اسوان الى اجيال قادمة، وسوف يستقي منها كل جيل معنى جديدا، تحدده سمات العصر وأحداثه.