ثورة في مصر

TT

بتغيير الدستور المصري يكون الرئيس مبارك قد فجر ثورة في العقل المصري، معلنا أن وظيفة الفرعون ليست شأنا إلهيا، بل حق مشروع للبشر، ومن حق أي مصري أن يتنافس للوصول الى قمة الهرم السياسي في مصر. وهذه علامة تاريخية فاصلة وفارقة في تاريخ مصر السياسي وثقافتها، ربما تتخطى تبعاتها القصد الضيق من هذا القرار.

الرئيس مبارك، وطواعية منه، تقدم لمجلسي الشعب والشورى، بتعديل المادة 76 من الدستور الخاصة باختيار رئيس الجمهورية، ليسمح بالتنافس الحر على رئاسة مصر، بحيث يكون هناك أكثر من مرشح للرئاسة. وقال الرئيس انه يقوم بذلك لجعل القوانين متمشية مع هذه المرحلة من تاريخ الأمة، وهذه نقطة مهمة وجوهرية، ما قام به الرئيس مبارك يفتح الباب على مصراعيه لرياح التغيير أن تسود واحدا من أهم المجتمعات العربية.

ولما قاله الرئيس مبارك مغزى كبير، وله ردود فعل أكبر، فما حدث في مصر يحدث في سياق اقليمي متغير، من انتخابات حرة ونزيهة في العراق، وانتخابات حرة ونزيهة في فلسطين، وحركة مجتمع مدني فوارة في لبنان، هنا يحسب للرئيس المصري وللدولة المصرية قدرتهما على قراءة المناخ العام في العالم، عالم يقول بأن الديمقراطية، ولا غيرها، هي التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم، وأن الديمقراطيات لا تتقاتل ولا تغزو ولا تكلف شعوبها الكثير.

أهم من المغزى القانوني لتغيير الدستور المصري، هي تلك الرمزية الثقافية والاجتماعية التي أطلقها الرئيس، هذه الرمزية تقول «ان الرئاسة موضع منافسة» على اعلى المستويات، لقد فتح الرئيس النظام من قمته، وبالتالي ما ينسحب على الرئيس ينسحب على من تحته في الهرم السياسي، فإذا كانت رئاسة الدولة قد فتحت للتنافس، فمعنى ذلك ان رئاسة تحرير الصحيفة المملوكة للدولة مفتوحة للتنافس، وان رئاسة التلفاز مفتوحة للتنافس، وان رئاسة مجالس القرى والنجوع مفتوحة للتنافس، وعلى رأي الكابتن محمد لطيف رحمه الله «محدش أحسن من حد».

نهاية فكرة الرئاسة التي تحيطها هالة لا يمكن الاقتراب منها او المساس بها، هي ما سيسجله التاريخ للرئيس مبارك، ربما يكتب عنه انه الرجل الذي غيّر ثقافة مجتمع بأكمله عن فكرة الرئاسة، غيّر مفهوم حضارة كان الفرعون فيها كل شيء الى مجتمع تقبل فيه منافسة الفرعون، هذه ثورة لا يستهان بها، لأن الثورة غالبا ما تولد من ثقافات الشعوب أولا.

ولكن لكل ثورة ايضا ثورة مضادة، والرئيس مبارك يفاجئنا كل يوم بأنه طراز مختلف من الحكام يقبل بالاختلاف، وها هو يقول لنا انه يقبل بالمنافسة الشريفة. وإذ أرحب ترحيبا كبيرا بهذه الخطوة التاريخية، إلا انني كأي كائن سياسي يصبح بلا معنى ان لم تكن له مخاوف وهواجس، وأول مخاوفي هو الثورة المضادة، ذلك لأن التحدي الذي طرحه الرئيس مبارك قد يكشف عورات كبرى في المجتمع المصري وثقافته السياسية، فعندما رفض الرئيس مبارك مبدأ توريث الحكم، كتبت على صفحات هذه الصحيفة بأن المجتمع بكل فئاته توريث في توريث، فابن القاضي قاض، وابن الضابط ضابط، وابن السفير سفير، وابن الوزير وزير، وابن الصحافي صحافي.. الخ. ووقوف الرئيس مبارك ضد هذه الثقافة الفاسدة أمر سيسجله له التاريخ ايضا، كما سيسجل له انه الرجل المصري الأول الذي قبل بالمنافسة الشريفة في حلبة شريفة.

ولكن هناك داخل المجتمع المصري مجموعات مصالح سميتها، خلال احد البرامج التلفزيونية، «مستوطنات»، ستحاول ان تعيق هذا الاصلاح لأنه ليس في مصلحتها التأصيل لمبدأ المنافسة الشريفة التي يحكمها معيار الكفاءة. وربما تكون من سخرية القدر ان الاحزاب السياسية المصرية هي التي لا تدخل المنافسة، ذلك لأن ما قاله الرئيس مبارك قد يكشف عورة هذه الاحزاب، فبعد هذا التغيير الدستوري، يبقى امام الاحزاب ان توضح للعالم بجلاء انها قادرة على جمع التوقيعات، وحشد الجماهير للوقوف في صف مرشحها للرئاسة. بالطبع نحن نعرف ان معظم الاحزاب المصرية، باستثناء الحزب الوطني وربما بعد مسافة كبيرة التجمع، هي احزاب ورقية مكونة من مكتب صحيفة في القاهرة يستغل لاستخراج ترخيصات صحف اخرى ومجموعة من الناشطين من اصحاب المصالح الصغيرة يروجون لوجود سياسي «ملوش رجلين»، أي لا يقف على أي أرضية من التأييد الشعبي.

التحدي الثاني، هو تحد طرحه الرئيس مبارك للمجتمع المصري سائلا اياه عما اذا كان الشعب قادرا على تجاوز ثقافة الرئاسة والخروج من «سوفت وير» الخوف والدفع ببناء مؤسسات قادرة على التنافس الحر؟!

التحدي الثالث، والذي ربما يستطيع الرئيس ان يستخدم نفوذه واحترامه داخل المجتمع، وكذلك قوته، لتغييره وهو تحدي «المستوطنات» التي تعشش في النسق الثاني من النظام المصري، بداية مما يسمى بالادارة المتوسطةMiddle management). ) فهل يستخدم الرئيس نفوذه «لتفكيك هذه المستوطنات»، كما فكك في رؤوس المصريين فكرة الرئاسة المطلقة؟! ظني ان الرئيس سيفعل ذلك.

لأنه ودونما خلق آليات هذه المنافسة في المجتمع، مثل الاعلام الحر وحق التجمع والاجتماع الحر، سنجد انفسنا امام حالة اشبه بالحالة التونسية، ففي تونس مثلا أقر الدستور حق المنافسة لمرشحي المعارضة، حدث ذلك في انتخابين رئاسيين متتاليين، حضرت احدهما في تونس، واتضح في نهاية الامر ان الرئيس قد فاز بنسبة 97% او 93%، شيء بالطبع لا يصدق، فإما ان الناس خوّفوا فلم يذهبوا لصناديق الاقتراع، وإما ان المرشحين المنافسين هم ممن ليس لديهم اي قواعد شعبية. النموذج التونسي يجب ان يتحسب له المصريون، لأنه نموذج، وهنا اقتبس مما قاله الرئيس، «لا يتمشى مع هذه المرحلة من تاريخ الامة». لا بد للتغيير ان يكون متمشيا مع المناخ المحلي أولا، ثم المناخ الاقليمي ثم المناخ العالمي، ورأينا في حالة لبنان ان انكشاف الغطاء عن اي من هذه الحمايات الثلاث له متاعب خطيرة، فالناظر الى سورية اليوم يرى انها مكشوفة محليا بتظاهر آلاف اللبنانيين ضدها في بيروت، مكشوفة ايضا بنهاية الطائف، وبتصريحات كل من الرئيس مبارك والملك عبد الله الثاني، ومكشوفة عالميا بالقرار 1559.

ان يكشف النظام في هذه المجالات الثلاث، هذا يؤدي بالضرورة الى خلخلة حقيقية للنظام، ورأى الرئيس مبارك ان ذلك حادث لسورية الآن، فأطلق تحذيره الشهير في الاسبوع الماضي. وكما أثبت الرئيس مبارك حكمة في قراءة الوضع السوري في لبنان، اثبت ايضا انه قادر على قراءة الوضع الداخلي في مصر في سياقيه الاقليمي والعالمي. تغيير الدستور وحماية الدستور هما خطوتان بعث فيهما الرئيس مبارك حيوية جديدة في النظام المصري يستحق منا عليهما كل ثناء، ذلك لأن في استقرار مصر ورفاهيتها استقرارا للعالم العربي كله.

ما بدر في القاهرة من الرئيس مبارك هو حدث تاريخي بلا شك، حدث يجب على المجتمع المصري كله ان يكيف نفسه ويعدل من وقفته على اساسه. وكما ذكرت في بداية المقال، المغزى القانوني لما حدث كبير، فهو يوسع من مساحة التنافس وحلبة الصراع الشريف على السلطة في واحدة من أكبر الدول العربية، وعلى أوربا وأمريكا ان تنظرا لما حدث بعين الاعتبار وتدعماه لأنه لو كان الأوربيون وكذلك الامريكيون يبحثون عن نموذج للنقل السلمي الى مجتمع ديمقراطي من دون دفع فاتورة كبيرة، فمصر هي ذاك النموذج.

الرئيس مبارك صنع تاريخا في مصر عندما فكك فكرة الرئاسة ثقافيا وقانونيا، ولهذا يجب ان يقف الجميع معه في ادارة هذا التغيير. وتبقى الكرة الآن في ملعب الساسة والمثقفين، فهل يرتفعون الى مستوى التحدي الذي وضعه أمامهم رئيس مصر؟!