سياسة.. أم سياسات عربية

TT

لا تخلو المعالجات النقدية لفعل الحكومات والأنظمة العربية من الإشارة إلى «السياسة العربية» ، بدءا من الأبحاث والمؤلفات الجادة إلى المقالات والتعليقات الإعلامية العابرة ، وكأنها تشير إلى معالم محددة ومتفق عليها تشكلت في وعي النخبة وانتقلت إلى الذهنية الشعبية، يلحق فيها كل جديد من الممارسات السياسية في عالمنا العربي، وتفاعلها مع المستجدات العالمية، لتفسير سلوكها السياسي وأحيانا للتنبؤ بما سيحدث مستقبلا، وهي إشارة تفترض قدرا أدنى من المحددات والمفاهيم التي يمكن تصورها في الذهن لهذا الوصف.. فهل هناك وجود حقيقي لما يطلق عليه «السياسة العربية»..!؟ بحيث تخضع للدراسة والتحليل ومحاولة الفهم، أم هي جزء من حالة خواء واستبداد المفاهيم المغلوطة التي تفسر الفشل الدائم في الوعي بالأخطاء المتكررة ، وتؤذي إحساسنا بالدقة حينما يلحق السيئ العربي بالأكثر سوءا، ويخلط النجاح الجزئي بالفشل الكلي... فمع هذه العبارات والمسميات العامة يفقد الحراك السياسي الايجابي في كل حالة عربية قيمته، ويتستر خلف هذه الرؤى التعميمية أنظمة وسياسيون عاجزون عن إصلاح أحوالهم، ومثقفون فقدوا القدرة على فهم واقعهم العربي.

لهذا الإطلاق ضرورات مبدئية ومبررات مقبولة في سياق الأحاديث والتعليقات العابرة التي لا تحتمل التفصيل أو تحت ظروف الحرية المنخفضة التي تمنع من التحديد وتسمية الأشياء، لكن الإسراف في استعماله يحول هذا التعبير إلى حقيقة مزيفة في وعينا العام. فالسياسة العربية في الواقع سياسات متنوعة ومتعددة ومتحولة وفق الأطر الزمنية والمكانية التي تميز هذه التجربة أو تلك، وإذا كنا نجد صعوبة حقيقية في فهم سلوك وممارسات كل نظام ودولة عربية بمفردها، حيث يتفق الكثيرون على غياب الروح المؤسسية للحكومات العربية ما يفقد مسارها السياسي التناسق المنطقي في تفسير كل قرار وفعل في الإدارة السياسية الداخلية والخارجية، فكيف يمكن الزعم بوجود شكل محدد أو متقارب لأنظمة وحكومات متعددة ، فعجزنا عن ضبط الجزء مرتبط بالكل.

لماذا نكافئ الأنظمة الفاشلة بتجاربها التنموية التي أهدرت ثروات بشرية ومادية وجعلت شعوبها في عجز حضاري شبه مستديم بمثل التعميمات الخادعة؟ التمييز يساعد على كشف الخلل في كل سياسة وتقييم المنجز التنموي، ومعرفة درجة الاستقرار من خلال أداء سياسي داخلي وخارجي. الفروق الكبيرة حقيقة لا تلغي وجود جوانب مشتركة ، على الأقل في حالات الفشل ، وإن اختلفت مستوياته من مكان إلى آخر في الإدارة السياسية وغياب الروح المؤسسية في صناعة القرار، وشيوع الفساد المالي والإداري، الذي يبرر إطلاق هذا التعميم في سياق الذم والحديث عن التخلف العربي، فتبدو معها الإشارة إلى هذه الفوارق ترفا فكريا لا أهميته له في تقييم الواقع ومعالجته.

لكن الاعتقاد بوجه واحد للفساد وللفشل السياسي، ليست مشكلته في أنه يقودنا إلى تصورات خاطئة لأزمة كل بلد، وإعادة أخطاء كبرى سابقة في رؤية المثقف العربي لحقيقته أزمات العالم العربي حينما قدم تقسيمات ثنائية للأنظمة ومعالجات شمولية لواقع مجتمعات تختلف في مستوى احتكاكها الحضاري ومرجعياتها الفكرية، وأثبت الواقع القريب فشل كل هذه التنظيرات ، فلا الرجعي ثبتت رجعيته ولا التقدمي أكد تقدميته ، وبدأت قراءة هذا الإرث التنظيري الكبير المثير للشفقة والسخرية ، فالواقع العربي يحدثنا عن مستويات متعددة من الفساد وعن أشكال يصعب حصرها من حالات الفشل لها جذور فكرية مختلفة في حضارتنا ومحاولاتها النهضوية.

ومنذ سنوات ومع شيوع الحديث عن الإصلاح السياسي العربي أخيرا ، نطالع في العديد من الدوريات الفصلية والشهرية العديد من الأبحاث الرصينة ومحاولات القراءات الجادة من كتاب ونقاد كبار. الجزء الأكبر منها متورط في هذه الرؤية التعميمية، وكأن التجارب العربية قابلة للاختزال التعسفي ، فتقول هذه الأبحاث والمؤلفات كلاما ضخما ومثيرا لواقع افتراضي لا وجود له ، نتيجة فقدان الإحساس بعمق الفوارق بين عدة نماذج من الأنظمة العربية، مع أنها أصحبت بعد نصف قرن حقيقة كبرى يصعب تجاهلها في أي دراسة محترمة. والجديد الذي تقدمه في رؤيتها للإصلاح المطلوب أنها تجاوزت التطرف القومي وروح اليسار إلى رؤى خجولة في تمرير أفكار ليبرالية.

هذه المواعظ الإصلاحية غارقة في التبشير في مؤسسات المجتمع المدني والديمقراطية والمشاركة الشعبية من دون الوعي بالأسباب الحقيقية لفشل مختلف التجارب العربية. وتحديد مصدر الخلل هل هو في ثقافة الفرد الإسلامية والعربية أم انه في النخبة السياسية والفكرية، وإذا فشلت كل المواعظ الدينية الكثيفة في خلق المواطن الصالح في عالمنا العربي، فكيف ستنجح المواعظ المدنية من دون إحداث انقلاب جوهري في تصورات الإنسان العربي حول ضرورات وقوانين الاجتماع الإنساني.

إن الإشكال ليس في عدم وجود مؤسسات المجتمع، وإنما في فشلها في أداء دورها حينما وجدت على أرض الواقع ، وهي حقيقة يجب ألا يتجاوزها المبشرون في الإصلاح الحالي، فوجود دساتير وهياكل تحمل في واجهتها لافتة مؤسسات أو صناديق اقتراع تعبر عن المشاركة الشعبية هي مظاهر خارجية أبدعت التجارب العربية في تفريغها من مضمونها، في أكثر من حالة عربية منذ نصف قرن، مما يؤكد أهمية الاستفادة من ثراء وتنوع حالات الفشل بالتخلص من وهم وجود سياسية عربية واحدة.. فالوعي الحقيقي لأزمة السياسة العربية يبدأ من إدراك الجزء إلى الكل، ومن الحالات القطرية الخاصة إلى الحالات العامة، فشغف المثقف العربي في الريادة السريعة والعابرة لحدود إقليمه يشجعه على الانخراط في فوضى التعميم، وتقديم الوصفات الإصلاحية الموحدة والشاملة لكل الدول من المحيط إلى الخليج.