أيام فاتت: أيام الأشقياء

TT

حدثني بعض الأصدقاء ان العراق على ابواب الرجوع لعهود الأشقياء، وهو ما كتبه علي الوردي حين وصف كيف ان الاشقياء كانوا يحكمون المدن في العهد العثماني، بل سيطر احدهم كلياً على بغداد وطرد الوالي التركي. الحقيقة ان تلك الأيام كانت احسن وأعدل من أيامنا، فالشقي لا يتعرض للفقراء والضعفاء وكثيراً ما ساعدهم. كل ما يفعله هو ان ينتزع «الخوة» من التجار والاغنياء، وإلا ارسل لهم اعوانه ليبسطوهم بسطة عراقية (وهي غير المصرية). كانت ايام خير وكان الناس يستجيرون بهم ويلتفون حولهم. بيد ان الحكومات الوطنية عمدت لتصفيتهم لمنافستهم لها في عمليات الشقاوة. كان من آخرهم في العهد الملكي ابن عبدك تمكنوا عليه وشنقوه، لكن بعد ان كتب لأخته قصيدة شعبية من اروع ما سمعت. يشجع اخته فيقول: «المشنقة أرجوحة الابطال».

خلفه في الشقاوة ابو الهوب. يروي صديقي حقي ابو سامي فيقول إن الانضباط العسكري طارده لهروبه من الخدمة. كادوا يلقون القبض عليه، لكنه فر منهم ودخل بيت صاحبي. قال لأم حقي «خبئيني، الانضباطية لاحقيني».

اشارت عليه ان يصعد للسطح ويختبئ في بيت الفراش. وألقت عليه بالأفرشة والبطانيات ونزلت. وحالما داهم الانضباطية البيت بمسدساتهم، اعترضتهم ام حقي، «شنو هذي؟ ما تخافون من الله؟ ما تستحون؟ تدخلون بيوت الناس وتفوتون على الحريم، وهن مفرعات مدلعات؟ تهتكون سترهن وتخوفوهن؟».

اجابها الانضباط بأنهم يبحثون عن جندي هارب وأشقياء عاصي على الدولة. «يا الله فوتوا، دوروا. ما عندي اي رجال بالبيت».

فتشوا البيت وفات عليهم تفتيش بيت الفراش، خرجوا آسفين مخذولين.

فصعدت ام حقي وأعلمت ابو الهوب بذهابهم. شكرها على حسن صنيعها وانصرف.

مرت ايام وشهور. وكان الصبي حقي راجعاً للبيت عندما تصدت له عصابة ابو الهوب. «تعال هنا ابن الـ.. تعال اخ الـ...!» وكادوا يسلبونه لولا أن ابو الهوب عرفه فعانقه واعتذر له وقبله في رأسه ثم أصر ان يسير معه ويوصله الى البيت بسلام ـ على عتبة البيت همس في اذنه، عيني حقاوي، الله يخليك، لا تقول لأمك على اللي حصل».

ومرت ايام وفاتت اعوام، واصبح صديقي تاجراً للملابس في سوق الهدوم. ومر ابو الهوب ليشتري سترة لنفسه ورأى حقي ابو سامي. خفَّ اليه وسلم عليه وسأله هامساً، «عيني حقاوي، ما قلت لأمك على اللي حصل بالخطأ؟».

وفاتت ايام وجاءت ايام. ووصل صدام حسين للحكم. كان في اول مخططاته الارهابية تصفية ابو الهوب. فالمثل العراقي يقول «ديكان اثنان على مزبلة واحدة لا يصح». فأطلق ازلامه لمطاردته، وبالفعل توصلوا إلى اغتياله. وبموته انتهت صفحة الأشقياء التقليدية وبدأت صفحة الشقاوة المعاصرة، شقاوة الدولة، أُم الشقاوات.

ويا عمي، كانت أيام وفاتت.