.. في المسألة الإسلامية

TT

صارت الرؤية كأنها مستحيلة وبؤرة الإبصار معتمة، لكن من يملك أن يعترف بأنه لم يعد يرى؟ من يملك أن يتوقف لحظة عن الكلام ليسمع أو يفهم أو ليستدل ويسير في الاتجاه الصحيح، ولو من دون إبصار، بهدي صدق البصيرة؟ من هذا الذي لديه الصبر لينتظر حتى تكمل، من دون أن يندفع ليستنتج ما تنوي قوله، رغم أن استنتاجاته تشطح بعيدا، ويظل بكل طاقته يرد على ما لم يكن في البال؟ هناك مثل عند أهل العراق، يقولونه عندما يتراكم الخطأ في المنطق والقول والسياق والمفردات، يقولون إن هذا كلام مثل:«خسان، خوسين، بنات معاوية!»، أي أن المتكلم يقع في مجمل أخطاء أولها: نطق أسمي«الحسن والحسين»، ثانيا: أنهما ولدا «علي بن أبي طالب» وليسا «بنتي معاوية»، ولقد عانينا كثيرا من الغوص الجاهل في «المسألة الإسلامية»، حتى ألفناه فقلت المعاناة، «تنحنا»، كما نقول باللهجة المصرية، وأصبحنا نمرر الكلام بهشة يد، ونواصل حياتنا وفقا لاختياراتنا التي تمليها علينا عقيدتنا بفقه مذاهبها المتعددة، وبعلم أهل الذكر، ولا نتوقف لنتعجب من أن معظم الخائضين في أمور الإسلام، لا يستقيمون معه، للأسف، على أمر أو تكليف أو طاعة أو إلتزام، ولو جادلك أحدهم أو إحداهن، يكون الجدل مطابقا للنكتة المشهورة: «من قال إن الصلاة من دون وضوء لا تنفع؟ أنا صليت من غير وضوء ونفع!».

تسمع الصارخ، كأنه الغيور على سمعة الإسلام, يهتف نافيا: «أهذا هو الإسلام؟ كلا! «وتنظر فترى الصارخ بعيدا، بقدر استطاعته، عن مظهر ومخبر الإسلام العزيز، وهو/ وهي، الذي/ التي يريد/ تريد، أن يلقى في روعنا أنه/ أنها، مقروص/ مقروصة بالمرارة حزنا على «التشويه». وحين ينطلق ذلك المنطلق/ المنطلقة بكلام عن الإسلام يشبه منطق «خسان خوسين بنات معاوية»، لا تملك أن تصده بـ«هون عليك، كلامك كله عك»، لأنه/ لأنها حينئذ سوف تعلو عقيرته/ عقيرتها بما يصم الآذان:«لا كهنوت في الإسلام، لا إغلاق لباب الاجتهاد»، وتشاور بما يفهم من الإشارة: «أينعم يا سيداتي سادتي.. لكن كذلك لا تخريف في الاسلام، والاجتهاد هو شأن من يعلم بحق الدراسة والبحث... و.. و..»، ولكن إذا كان هذا المنطلق/ المنطلقة، بنكتة «أنا صليت من غير وضوء ونفع»، لا يسمع صوتك فهل يمكن أن يرى تلويحاتك؟

وبمناسبة فتح أحاديث مناهج التعليم وبيان «فقهاء محاكم التفتيش الأميركية»، الذي نشرت الشرق «الأوسط أخباره» في صفحتها الأولى بعددها الصادر 4/3/2005، يدعو إلى محاكمة أميركية دولية لعلماء الدين وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي، والأستاذ راشد الغنوشي، يحق لي أن أتساءل: هل نريد أن نعد المواطن المسلم، ليكون راضيا بعلمنة المجتمع في البلاد الإسلامية، تحت عنوان «المجتمع المدني»، الذي ينحي الإسلام تماماً عن القوانين المنظمة للمجتمع، باعتباره عمامة متحفية نبوسها ونضعها جوار الحائط؟ ألا يجب أن نسعى نحو جعل الأمور أكثر استقامة بحيث تصبح شريعة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، هي القائد لهذه الأمة، والحاضنة لتيارات التطور المعاصرة المنبثقة منها، أم أن نخضع لنداءات المطالبة بتدجين المواطن المسلم منذ الطفولة، ليتوافق مع ما يسميه الراطنون بـ«العصرية» و«الحداثة» و«العولمة»، من دون أن نحدد إلى أي «عصر» تنتمي تلك «العصرية»، المبتغاة والمنشودة من «فقهاء محاكم التفتيش الأميركية» إلى «عصر الإسلام» أم «عصر الحقبة الأورو أمريصهيونية»، وعولمتها التي أصبحت تفصح عن نفسها بإملاء وقح متعجرف، يتباهى بإهانة الآخرين، وهو سائر نحو سحقهم بدماره الشامل؟ هل يجوز تدجين الطفل المسلم ليتوافق، فيما بعد، مع من أعلنوا بوضوح عداءهم للإسلام بالقول والفعل؟

ألا يجب أن نربي الوعي لدى الطفل المسلم، بأنه سوف ينشأ في مجتمع به تعداد جاهل بالعقيدة، وآخر معاد له جهارا تحت الإلحاد السافر، أو تحت غطاء مخاتل، مثل «لتنوير»، الذي لا يرى الصالح إلا في التبعية القردية للغرب والانصياع التام لأميركا ـ كقوة وحيدة كما يزعمون ـ ونبذ «فطرة» المقاومة، بدعوى أنها ليست غاية، بل وسيلة أثبتت فشلها. ولا يسألنني أحد كيف أثبتت المقاومة فشلها، لأن هذا يدخل في منطق «خسان خوسين بنات معاوية»!، ألا يتحتم أن نربي الطفل بما يسلحه بمهارة المنطق السليم الصحي، وبقوة الخلفية الإيمانية القادرة على مناظرة الأفكار العلمانية المثبطة وفضحها ودحضها، بأسلوب غير إنشائي وغير متهافت؟ ألا يجب أن ندرج في مناهجنا الدراسة النقدية للأفكار العلمانية العولمية، ومهاجمتها من نقاط قوتها لا من نقاط ضعفها البدهية؟ ألا يمكن أن نستفيد من ميراث التربية التي أخرجت ابن سينا والبيروني، وابن خلدون، وجمال الدين الأفغاني، وسيد قطب، إلى آخر سلسلة العظماء في أمتنا من الشرق والغرب، الذين لا تحتفل بهم مجالسنا العليا للثقافة؟ والذي يمكن أن نضيفه حديثا هو: ترسيخ الوعي لدى طالب العلم وطالبته، بأنه يتحرك ويعيش في عصر قوة التحديات العلمانية، التي عليه أن يتخطاها ويعلو فوقها ليحقق مسؤولية «المعاصرة» وهي: تثبيت المشروع الحضاري الإسلامي، وتقديم إنجازاته الإنسانية لنسترد موقعنا الندي مع قوى العالم ـ الوحيدة أو المجتمعة ـ، لنملك مصيرنا في السياسة الدولية، ونجلس، بعلمائنا، في مقعدنا الشاغر في الساحة العالمية، بوجه مؤمن أصيل وضيء، رحمة للعالمين.