حسبة الشيطان.. في جنوب لبنان

TT

وصف أمين عام «حزب الله» لبنان بأنه «الحالة الفريدة في هذا العالم»... وكأن لبنان لا تسري عليه قوانين الحركة السياسية، التي تسير على كل الأمم. يجب أن نعترف فعلا بأن هناك ممارسات فريدة عند رجال السياسة في لبنان، لا نراها بسهولة في أمكنة أخرى. يصعب أن نسمع لغة زعيم المعارضة اللبناني وليد جنبلاط المفتوحة، والجارحة في صراحتها وهي تستحضر الوقائع، وتسمي الأشخاص المشتبه بهم في عملية اغتيال الرئيس الحريري.

لكن الزعيم جنبلاط ذا اللغة المفتوحة، يصبح فجأة كمن في فيه ماء، إذ يغض الطرف عن تعريض أمين عام «حزب الله» الصريح بخطابه السياسي القائم على نقد مخابراتية الدولة اللبنانية وحليفتها سوريا، ولا يرى في كلام نصر الله سوى الإيجابيات.. هذه المراعاة لا يوفرها جنبلاط إلا لحزب الله، برغم كل ما قاله أمينه العام في حق المعارضة، والأسوأ في حق هذا الجمهور الكبير، الذي يتدفق لعدة أسابيع أمام ضريح الرئيس الحريري: «بعض التظاهرات وبعض (الشالات) وبعض الهتافات»، ويبدو أمين «حزب الله»، كمن صب ماءً بارداً على أشواق الملايين، لا في لبنان، بل في العالم العربي كله، الذين ظلوا لأسابيع متسمرين أمام أجهزة التلفزيون، يرقبون ربيعاً ديمقراطياً طال انتظاره: «لبنان ليس أوكرانيا، لبنان ليس جورجيا».

تنطلق مراعاة جنبلاط لـ«حزب الله»، من كون الأخير أكثر من حزب أو ميليشيا عسكرية، فـ«حزب الله» صار رمزاً لأفضل ما فينا كعرب ومسلمين، كمقاومة لكل طغيان أجنبي، وكل الإهانات التي كالتها إسرائيل وحلفاؤها لأكثر من نصف قرن. يحق للسيد حسن نصرالله شيئاً من الشطط، لأنه قاد معركة تاريخية، ملحمة كبيرة رفع عبرها رؤوس شعوب لطالما كسرها الاحتلال والقهر. ولهذا فقد شعر الرجل يوم الثلاثاء الماضي بالانتقاص العظيم لهذا الرصيد، مع الغطرسة التي يردد فيها الساسة الأميركيون والإسرائيليون ضرورة تطبيق القرار 1559، الداعي لانسحاب سوريا وتجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها. أمريكا التي تحتل العراق لعامين، والتي لا تعلن أي جدول زمني لانسحابها، وإسرائيل الجاثمة على مرتفعات الجولان والضفة وغزة لـ38 عاماً، يعطيان سوريا محاضرات عن ضرورة الانسحاب...

مع ذلك فالإنجاز الباهر لـ«حزب الله» ولد معه مشكلة; أنه باستمراره كجيش خارج الدولة، يتحول إلى حركة ضد الدولة التي خلقها اتفاق الطائف. هذا الاتفاق الذي نزع فتيل الحرب الأهلية، لأنه حل المليشيات وصنع جيشاً موحداً. ومع أن «حزب الله» اخترق بنود الطائف بإقامته جيشاً آخر خارج الجيش الوطني، إلا أن اللبنانيين وافقوا على مضض، كضرورة لتحرير الأرض. لكن كثيراً منهم يتساءل الآن: ماذا يفعل جيش «حزب الله» اليوم وبعد مرور خمس سنوات على التحرير؟ للسنة الخامسة على التوالي بعد الانسحاب الإسرائيلي، لا يزال الحزب يستلهم حجة عدم اكتمال التحرير، بالنظر لاستمرار حيازة إسرائيل لمنطقة صغيرة، كانت قد ضمتها سوريا واحتلتها إسرائيل في حرب 1967، وتعتبرها الأمم المتحدة أرضاً سورية. لذلك فهذه الحجة أمست متهافتة اليوم.

وتثور تساؤلات مخيفة لو نحن أطلقنا لحسابنا العنان، لنفهم أي عمليات تصعيد محتملة في الجنوب إزاء تدمير لمنشآت نووية أو استراتيجية إيرانية، أو عدوان واسع ضد بلد عربي، هل سيرد «حزب الله» بالكاتيوشا، أم أنه سيحمّل صواريخه مواد أشد تدميرا، ولعل هذه هي حسبة الشيطان، التي حسبها المخططون الأمريكيون وحلفاؤهم الإسرائيليون، وهم ينسجون في القرار 1559، عملية نزع سلاح «حزب الله» وإخراجه من الجنوب.

ولو أن مواجهة «استراتيجية» في الجنوب، كانت تمتلك تعويضاً ما، للدمار الواسع والموت المجاني للمدنيين اللبنانيين، فلربما «هانت» التضحية. لكن النموذج الناجح ضد إسرائيل حتى الآن لم يكن استراتيجيا. الذي حرر الجنوب ليس الدعم الاقتصادي الكبير الذي أسهمت به جمهورية إيران الإسلامية، ولا التغطية السياسية السورية على أهميتهما; تحرير الجنوب كان فاعلاً، لأنه حركة تحرير أرض من محتل أجنبي، قادها آلاف اللبنانيين الذين نذروا حياتهم لتتحقق هذه الغاية...

لكن الصراع ليس متكافئاً حين يخرج من دائرة المقاومة الشعبية ليكون استراتيجياً، توظف فيه عملية القتل والتدمير إلى الحدود القصوى. لا قبل للجنوب ولا لكل لبنان أن يواجه صراعاً من هذا النوع.. فآلة الحرب الإسرائيلية، ومعها الحليف الأمريكي مصممة بالضبط لهكذا مهمة، لأن تقصف طائراتها على طريقة السجادة، من الجدار للجدار.. إسرائيل لا تستطيع أن تمتلك أرضاً أهلها مستعدون ليموتوا لأجلها، لكنها قادرة على حرق أرض ترى فيها تهديداً لأمن سكانها.. هذه هي حسبة الشيطان التي يجب أن يتحمل «حزب الله» أبعادها بشكل كامل. وإن قرّر أن يدخل جهنم التدمير الشامل مع إسرائيل، فيتعين عليه أن يحسم مسألة أخلاقية من العيار الثقيل: هل قراره يمثل اللبنانيين ـ كل اللبنانيين ـ الذين كثيرا ما عانوا في الماضي من تدمير بُناهم التحتية، وقصف مدنهم وأحيائهم وتجويع أبنائهم، والذين في مواجهة استراتيجية معرضون لألوان أبشع بكثير من الخراب والموت؟ هل يستطيع المناضل حسن نصر الله أن يواجه شعبه بعد هكذا ترويع؟. لا أعتقد ذلك.

وهذا يعيدنا مرة أخرى للمشكلة الأصلية: أن مقومات السيادة لن تستكمل، حتى تحتكر الدولة منفردة أجهزة العنف. لكن هذا الاحتكار يجب أن يتم ضمن صيغة لا تضعف لبنان. وتجريد «حزب الله» من سلاحه يشكل عملية انكشاف لبنانية، فالجيش منفرداً لا يستطيع الدفاع عن حدوده. لهذا فإن حل جيش «حزب الله» في الجنوب، وتسريح مقاتليه، يمثلان في وضع الاستئساد الإسرائيلي الراهن على العالم العربي، خسارة فادحة، فجيش «حزب الله» يقدم عنصر توازن لسياسة اليد الطليقة، التي تبعتها إسرائيل لعقود طويلة.

هذا هو التحدي الذي على «حزب الله» والدولة اللبنانية أن يحلاه: أن السيادة منقوصة بوجود جيش «حزب الله»، لكنها ستكون منقوصة أيضاً لو تم تسريحه.