خطاب الأب إيذانا بالدخول.. وخطاب الابن إعلانا بالخروج

TT

عشية الذكرى السنوية الأولى لحادثة 13 ابريل (نيسان) 1975 التي كانت الشرارة للحرب اللبنانية أو لحرب الآخرين على ارض لبنان، وبواسطة بعض أبنائه ومعظم ضيوفه الفلسطينيين، وكل الثوريين الأمميين الشاردين، أعلن الرئيس (الراحل) حافظ الأسد في خطاب القاه في جلسة افتتاح «المؤتمر العام الثاني، لاتحاد شبيبة الثورة» الذي عُقد في دمشق، عن الاستعداد لإرسال قوات سورية الى لبنان.

كان الخطاب المكتوب خالياً من الفقرة التي تشير الى ذلك. لكن الرئيس الأسد خرج عن النص ليهاجم «المتاجرين بالدين والسياسة والثورة وسفَّاكي الدماء»، وليضيف القول: «إن سورية مستعدة للتحرك الى لبنان، لحماية كل مظلوم وضد كل ظالم...». وفي الخطاب ايضاً الذي قوطع 16 مرة بالتصفيق نبَّه الفلسطينيين، الذين كانوا جزءاً اساسياً وبقيادة زعيمهم ياسر عرفات من مشروع الحرب، الى خطورة المؤامرة، وقال إنه اتفق مع الرئيس اللبناني (زمنذاك) سليمان فرنجية (جد القطب الماروني الحالي سليمان)، على أن يستقيل درءاً للانفجار الأكبر.

هذا الموقف من جانب الرئيس حافظ الأسد، جاء بينما كانت القوات السورية في الاراضي اللبنانية، وبعد مشاورات ومقايضات بدأت يوم 14 مارس (اذار) عام 1976، عندما أوكل الرئيس السوري إلى رئيس أركان الجيش، اللواء حكمت الشهابي (يعيش الآن في اميركا، حيث يعمل نجله طبيباً)، مهمة التباحث مع السفير الاميركي لدى سورية ريتشارد مورفي، في امكانية التدخل السوري عسكرياً في لبنان، بعدما كان الجيش اللبناني انقسم اثنين ثم ثلاثة.. ثم تبعثر شر تبعثُر.

طالت المداولات السورية ـ الاميركية التي كان وزير الخارجية (زمنذاك) هنري كيسينجر العنصر الفاعل فيها، وانتهت الى ان القوات السورية دخلت، ثم انتشرت بموافقة الادارة الاميركية، وشجع الادارة على ذلك ان الرئيس الأسد أراد نصرة الفلسطينيين المعتدلين والمسيحيين المحافظين، في وجه التجمع اليساري، الذي كان يقوده زمنذاك الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، وكان يتطلع من وراء ذلك الى ثورة دستورية تنتهي بترؤسه لبنان، وبذلك تنقلب المعادلة القائمة على ان رئيس الجمهورية، يجب ان يكون مسيحياً مارونياً، ويكون رئيس البرلمان مسلماً شيعياً، ورئيس الحكومة مسلماً سنياً. وكان جنبلاط الأب في تطلُّعه هذا، يستند الى انه الرقم الأكثر صعوبة في الحالة اللبنانية، كونه جعل الثوريين المعتدلين واليساريين المتشددين ومن كل الأطياف اللبنانية، يلتفون حوله ويؤازرونه في الالتفاف على الطموح السوري.

منذ ذلك الخطاب للأسد الأب والقوات السورية موجودة في كل لبنان. وبعدما تم التوصل الى اتفاق الطائف الذي اذاع وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل وثيقته يوم الاثنين 18 سبتمبر (ايلول) 1989، أراد الرئيس الأسد إعطاء العلاقة السورية مع «لبنان الطائف»، صيغة الارتباط باتفاق أبدي، فكانت المعاهدة المسماة «معاهدة الأُخوَّة والتعاون والتنسيق»، التي تم التوقيع عليها في دمشق يوم 22 مايو (اذار) 1991 من جانب الرئيس حافظ الأسد وأول رئيس في عهد «لبنان الطائف» الياس الهراوي. ونقول انه الأول لأن من كان مفترَضاً ان يكون الأول بالفعل، وهو رينيه معوَّض (التاسع في تاريخ رؤساء لبنان منذ الاستقلال عام 1973) لقي حتفه يوم الاربعاء 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 في عملية تفجير أقل هولاً من تلك التي استهدفت الرئيس رفيق الحريري يوم الاثنين 13 فبراير (شباط) 2005. وجاء تفجير الرئيس معوَّض بعد دقائق من مغادرته الاحتفال، الذي اقامه في القصر الحكومي بذكرى الاستقلال، بحضور السفراء العرب والاجانب في طريقه الى منزله.

ومثلما كان لافتاً ان الرئيس الأسد الأب استعجل إبرام المعاهدة مع الياس الهراوي، الذي اختاره ليكون رئيساً للجمهورية، ولمجرد انجاز العملية الانتخابية، ولم ينتظر الى ما بعد أن يستقر البلد، ويبني مؤسساته ويرمم ما فعلته الحرب، فإنه كان ايضاً لافتاً ان الممكن من التنبه والتحفظ سجَّله الجانب اللبناني قبل وضع التواقيع على الورق. وعلى سبيل المثال فإنه عندما اراد الجانب السوري أن ينص البند الثاني من المادة الخامسة من المعاهدة، على «وحدة المصير والمصالح المشتركة القائمة بين البلدين»، فإن الجانب اللبناني المتهيب، أراد حذف كلمة «وحدة» وكان له ما أراد، حيث بات البند المشار اليه على النحو الآتي: «المصير المشترك والمصالح المشتركة القائمة بين البلدين...». وإذا كان الدافع الى التهيب هو الإبقاء قدر الامكان على نوع من الاستقلالية للقرار اللبناني، فإن التطورات التي اعقبت اربع عشرة سنة من سريان التعامل السوري مع لبنان، وفق المعاهدة التي حملت توقيع كل من الرئيسين الياس الهراوي وحافظ الأسد وتاريخ 22 مايو (ايار) 1991، اثبتت ان اليد السورية كانت عموماً هي الأقوى، وأن «لبنان الطائف» لم يقو على تخفيف حدة القبضة.

رحل الأسد الأب وبقيت المعاهدة مع لبنان جزءاً من الإرث، لا يدري ماذا يفعل به الأسد الابن. وبدل ان يساعده رموز الصفوف المتتالية في الحكم، على بلورة ما يمكن بلورته للمرحلة المقبلة، وتصحيح ما يجب تصحيحه، فإن البعض منهم خرج على الأصول في الموضوع اللبناني، إما من خلال الممارسة، وإما من خلال التحليل البغيض للموقف. وجاءت العملية الترويعية التي استهدفت الرمز المقبول لبنانياً وعربياً ودولياً رفيق الحريري تشكل حالة صحوة، اثبتت أن العلاقة اللبنانية ـ السورية على نحو ما سارت عليه طوال 29 سنة، كانت تسير على قاعدة الطرف الأقوى والطرف المستضعَف. ولأنها استمرت كذلك، فإن اساليب اهل الأمن العنيف طغت على وجهات نظر أهل الرأي الحصيف. وهكذا وجد الرئيس بشّار نفسه امام حالة غير مسبوقة، ابتعد فيها الأشقاء العرب عن الحكم السوري الواعد، واصطف معظمهم جنباً الى جنب مع الاصدقاء الدوليين اللائمين الغاضبين، مشاركين في أضخم حملة ضغط على الحكم البشَّاري، بعد الحملة المماثلة التي استهدفت الحكم الصدَّامي. ودرءاً منه لتحفيف حدة الحملة، كان خطابه مساء يوم السبت 5 مارس (آذار) 2005 معلناً فيه قرار الانسحاب العسكري الشامل من لبنان.

ويبقى أن ما أُردتُه من هذا الاستحضار للوقائع، هو تبصير أجيال شابة جديدة، اضافة الى جيل الشيَّاب، الذين وهنت ذاكراتهم الى جانب قواهم، بخلفية إجراء تاريخي يتمثل في خطاب الرئيس الأسد الأب، إيذاناً بالتدخل العسكري في لبنان، وارسال قوات تمركزت في معظم المناطق اللبنانية، وفي ضرورات قرار، ربما كان لن يقدم عليه الرئيس الأسد الأب، لكن الرئيس الأسد الابن اتخذه، وكان إعلاناً بالخروج العسكري السوري من لبنان. ومع أن الرئيس بشَّار كان دون العاشرة من العمر، عندما اتخذ والده قرار الدخول العسكري الى لبنان، الأمر الذي يعني انه مجرد وارث لجملة قرارات واجراءات وخطوات، إلاَّ انه في اي حال ربما يرى ذات يوم، انه بخطوته التي قضت بإعلان الخروج العسكري، لم يخرج على العهد بالمفهوم المبدئي، وإنما بدأ يؤسس لعهده الخاص به بالمفهوم الموضوعي.. وهو أمر مرغوب سورياً ومأمول عربياً ومرحَّب به دولياً.