هزيمة الفكر العروبي مرة ثالثة

TT

واجهت النخبة العروبية اللبنانية نفس المحنة التي واجهتها نظيرتها الكويتية ثم العراقية، الأولى بعد ان صدمها احتلال بلادها والثانية بسبب معاناتها الطويلة في الداخل.

الشبه هنا لا علاقة له باحتلال عسكري سوري للبنان، حيث ان السوريين زحفوا الى هنا منذ ثلاثين عاما تحت دعوة مشروعة، وكانوا جزءا من آلة حفظ الأمن والاستقرار، مع وجود شق من اللبنانيين تقلبوا وكانوا رافضين من البداية. الوضع الجديد في لبنان يختلف عن سابقه بعد ان صار هناك شبه اجماع على ضرورة تخليص البلاد من نظام محلي، يقتات ايضا على الوجود السوري. وبعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري صارت الاغلبية قطعا مع التغيير، تغيير النظام المحلي وخروج القوات السورية بعد ان صنفت طرفا في الصراع.

كيف تحول اكثر العرب تعصبا للفكر العروبي اكثر عداوة له؟ الكويتيون كانوا متعصبين للفكرة العروبية في طروحاتهم ومواقفهم الاقليمية، حتى دخلت الدبابات في فجر يوم الثاني من اغسطس 1990 الذي هز قناعاتهم بشكل جذري. بعد آلام ودماء كثيرة تبدلت مواقفهم نحو مفهوم اكثر واقعية، فيه ادراك لطبيعة كل قضية على حدة. الكثير من العراقيين الذين عانوا اكثر من غيرهم من المساندة العروبية لنظام لم يعرف الرحمة، عرفوا المشكلة مبكرا وحملوا في داخلهم تراكمات سلبية ضد كل ما هو عربي. وهذا ما تمر به النخبة اللبنانية التي تميزت بمواقفها العروبية التي ترى المنطقة من منظار قومي لا توسط فيه، فقط بغض النظر عن جريمة المذنب ومأساة الضحية، وهذا ما يدور عادة في ذهن أية فئة نخبوية تنعم بترف التنظير الفكري بعيدا عن حقائق القضايا كما هي.

من الذي تسبب في خلخلة البناء القومي العروبي؟ قطعا الذين استخدموا النظرية للامساك بالسلطة او تبرير اخطائها في المنطقة. خلال اربعين سنة اعقبت هزيمة حرب 67، قاوم أهل الفكر مراجعة ما حدث بالتبرير والتحريف، وتقديس الافكار والرموز، متصدين لكل المحاولات الاصلاحية في الفكر والممارسة، وراح كثيرون ضحية محارق التخوين، مثل توفيق الحكيم، جرب مرة محادثة العقل العربي عن عودة الوعي. ولأن الفكر عاش راكدا مطمئنا الى اسكات معارضيه، استمرت المخالفات ردحا طويلا من الزمن، حتى تقع أزمة مرة هنا ومرة هناك، وفي كل أزمة تكتشف النخبة المحلية سوء استخدام الفكر القومي المتشدد الاعمى.

في لبنان لم تكن للسوريين الى وقت قريب مشكلة، خاصة مع وجود اتفاق كان يفترض ان ينظم العلاقة، المشكلة كبرت مع تمسك المنتفعين من الوضع تحت مسميات اللحمة العروبية والمواجهة مع العدو الصهيوني. اساءت الممارسات للعروبة كرابطة قومية واسيء للصراع باستخدام اهدافه للاحتفاظ ببيروت لا تحرير الاراضي المحتلة. وأكثر العرب المتعصبين عروبيا هم البعيدون عن دائرة الأزمة، وهذا ما يبرر قول احد المثقفين المغاربة معاتبا اللبنانيين على معارضتهم، قال انهم يتسببون في تقوية موقف اسرائيل!

[email protected]