بعد عشرين وجدتها شيئا آخر!

TT

احد الزملاء كتب ـ والله علي ما اقول شهيد ـ يقول انه لا يستريح الا اذا استمع يوميا الي احدى الأوبرات.. هذه العبارة لا يمكن ان تنتهي عند هذا الحد.. وانما يجب ان تديرها في دماغك يمينا وشمالا، فأنا لا اعرف كيف، اولا الزميل الفاضل لا يعرف اللغة الايطالية.. وحتي لو عرفها فإن هذه الأوبرات مكتوبة شعرا، وغناء هذا الشعر يجعل من الصعب متابعة ما يقوله المطربون، الا اذا كان المستمع إيطاليا. وانا اعرف اللغة الايطالية ومع ذلك فإنني اجد صعوبة في متابعتها ولكنه يقول، ومن الممكن ان اصدقه، اذا استطاعت اذنه ان تقوم باستعادة الكلمات والاحتفاظ بالموسيقى ـ وقد حاولنا في مصر ترجمة بعض الأوبرات الى العربية ـ ولم نستطع ان نتابع الكلام!

وقال ان أسخف الأوبرات هي اوبرا (كارمن).. وهذا حكم لم يقله احد من قبل ولا جرؤ ولن يجرؤ احد.. فهي اوبرا جميلة قامت على قصة للشاعر الفرنسي ميريميه وللموسيقار الفرنسي بيزيه.. سألت اهل الذكر حولي ان كانوا قد قرأوا مثل هذا الحكم الغريب، ومما رأيته على وجوههم فهمت ان صاحب هذه العبارة يستحق كذا وكذا.. وانت حر في ترجمة كذا وكذا اذا عرفت ان اهل الذكر وجدوا ان التعليق على هذه العبارة اهانة للعقل والذوق والشعر والموسيقى!

اما انا فواضح انني احب هذه الأوبرا، واضيف الى ذلك ان اول فيلم رأيته في حياتي كان اسمه (غراميات كارمن) ونفس القصة لنفس المؤلف.. اما البطلة فهي ريتا هيوارث. وقد اسعدني الحظ عندما جاءت الى القاهرة مع زوجها علي خان، ان حكيت لها ذلك واسعدها ان تكون اول بطلة في حياتي، وقد ضحكت كثيرا عندما قلت لها انني لم ادخل السينما طوال حياتي الدراسية.. وانما فقط بعدما تخرجت في الجامعة، رغم ان في بلدنا اربع دور للسينما امر عليها ذهابا الى المدرسة وايابا، ولم يحدث ان توقفت ارى الجميلات وراء الزجاج، فقد كنت اعتقد في ذلك الوقت ان السينما افساد ومضيعة للوقت، وان التلميذ المجتهد هو الذي من البيت للمدرسة ومن المدرسة للبيت، واذا اراد ان يتحرر قليلا فليجعل طريقه على المكتبة العامة وقد حدث.

واعجب ما حدث لي ـ وهذا يدل على ان الحب اعمي، وان التخصص اعمى ايضا، وان المدمن اعمى واطرش واخرس، وقد كنت كل هؤلاء. فلما رأيت فيلم (غراميات كارمن) كتبت كثيرا. وفي ذلك الوقت كنت داعية الفلسفة الوجودية في مصر وكان قد صدر كتاب (الوجودية)، وهو اول كتاب باللغة العربية السهلة، ولما رأيت هذا الفيلم وجدت في عباراته ومواقفه كل مبادئ الفلسفة الوجودية، وكتبت عنه واطلت في الكتابة حتى نبهني احد زملائي الى ان هناك افلاما اخرى كثيرة، هنا ادركت فعلا انه على حق وانني زودتها!

وبعد عشرين عاما قررت ان ارى هذا الفيلم، الذي كان سيد الأفلام في حياتي، كما كانت ريتا هيوارث جميلة الجميلات، وجلست وتهيأت واحتشدت وشحذت كل حواسي لكي ارى عشقي القديم. شيء عجيب جدا قد حدث، فلم ار في الفيلم ولا عبارة واحدة مما بهرتني! ولا جملة. لا البطلة قالت ولا البطل، وانما خرجت العبارات من داخلي.. خرجت وجودية وهي في الحقيقة ليست كذلك..

وكان ذلك اول درس مقنع بأن الحب اعمى، وان التخصص اطرش ايضا.. فقد امتلأت نفسي كلاما ومعاني واشارات كلها عن الفلسفة الوجودية.. فلم اكن ارى او اسمع سواها: كلاما ونثرا وشعرا وخبالا وخبالا ايضا. فكيف يكون العقل الانساني بهذا الشكل؟ لا جواب الا انه العشق الكبير الذي (يتسلطن) على العقل والقلب والنوم واليقظة!