تحرير المواطن شرط لتحرير الوطن

TT

لخصت حرب المسيرات المشتعلة هذه الأيام في لبنان عقدة التحول الديمقراطي في العالم العربي التي تتمحور حول الصدام المحتدم بين شرعيتين: شرعية المقاومة والتحرر الوطني والقومي، وشرعية السيادة الوطنية والتحرر السياسي بتكريس المسلك الديمقراطي والتعددي. ولئن كانت للساحة اللبنانية خصوصياتها المعروفة ـ التي لا تحتاج للشرح والتفسير ـ فإن المشهد العربي العام تصدق عليه المعادلة اياها في خطوطها العامة.

وقد كشفت اللقاءات التي نظمها المجتمع المدني العربي في الفترة الأخيرة، ومنها المؤتمر الثاني للإصلاح الذي التأم في مكتبة الاسكندرية الأسبوع المنصرم عن هيمنة اشكالية العلاقة بين المقتضيات السياسية للتغيير الديمقراطي واعتبارات الأمن الاقليمي، وتأثير الرهانات الاستراتيجية الدولية في المنطقة على الحوار الثري الدائر حاليا حول منعرج الاصلاح في العالم العربي.

وغني عن البيان ان الانظمة الشمولية العربية دأبت على تبرير حالة الانغلاق السياسي والاحادية المركزية بمتطلبات الصراع العربي ـ الاسرائيلي ومتقضيات المواجهة مع قوى الهيمنة الدولية في مرحلة غدت الأولوية لشعار «التحرر القومي». ومن هنا ندرك أسباب تعليق التجارب الديمقراطية البرلمانية التي عرفها العديد من البلدان العربية قبل قيام الثورات القومية في الخمسينيات من القرن الماضي، باعتبار كونها ديمقراطيات كرست التبعية والفساد، وارتبطت بالتدخل الأجنبي.

صحيح ان الظروف الراهنة مغايرة نوعيا، فلم يعد ينظر للصراع العربي الاسرائيلي بأنه صراع وجود لا حدود، بل تحول الى الأجندة التفاوضية ورضي العرب اجمعهم بالطرف الأميركي راعيا وحكما في العملية السلمية التي تتمحور حول استعادة أراض محتلة عام 1967، وانهارت دوائر الحراك الاستراتيجي البديلة عن «الغرب الاستعماري» (كما كان ينعت سابقاً) فلم يعد مشروع الكتلة التقدمية الثورية قائما ولا حلم المجموعة غير المنحازة مطروحا، بل نرى بوضوح ان الخطاب السياسي العربي تأقلم بسرعة مع حقائق الوضع الدولي الجديد، ولم تعد ثمة دولة ـ بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق ـ ترفع شعار محاربة أميركا ومعاداتها. ومع ذلك، فإن استمرار الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية، وانتصار الصهيونية الدينية اليمينية الراديكالية في اسرائيل وتحالفها المكين مع اليمين الأميركي المحافظ والمجموعات الاصولية المرتبطة به، والاحتلال المستمر للعراق، عوامل تركت أثرها في طبيعة تقبل الشارع العربي وقواه السياسية لخطاب الاصلاح الذي تبنته إدارة الرئيس بوش بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001 واصبح في الفترة الأخيرة همها الشاغل.

ولا يتعلق الأمر بمجرد الشك في نوايا الولايات المتحدة التي اثبتت تجربتها خلال العقود الماضية ان اعتبارات المصلحة القومية الحيوية تتفوق لديها على المنظور القيمي، بل بخلفية أكثر عمقا تتصل بالأرضية الثقافية والايديولوجية للخطاب السياسي العربي الراهن الذي يعتبر التحرر القومي (أي تحرير الارادة السياسية والقرار الفعلي من التدخل الخارجي) شرطا ضروريا لتفعيل الحريات داخليا.

من هذا المنظور يستمد الاستبداد أصوله من الحماية الخارجية، وبتحرير البلدان (الذي لا يمكن ان يتم إلا داخل المنظور القومي الشامل) لا سبيل للرهان على ديمقراطية وطنية يؤدي فيها العامل الخارجي دورا أكثر اهمية من خيارات الشعب.

ومن هنا يلتقي خطاب جانب وافر من النخب مع الخطاب الرسمي الرافض للتدخل الخارجي، وفق مسارات وخلفيات متباينة من دون شك، لكنها تلتقي في النتيجة النهائية.

فالذين وقفوا في مسيرة الشيخ نصر الله في بيروت منددين بأميركا واسرائيل معتبرين تطورات الوضع الداخلي اللبناني مجرد تفصيل في معادلة اقليمية واسعة، قدموا خطاب المقاومة بصفته الاستجابة الصحيحة لتحد خارجي يتخذ عنوان الاصلاح والتغيير.

والذين رفضوا المشاركة في الانتخابات العراقية الاخيرة والتعامل مع السلطة القائمة بحجة احتلال البلاد، اعتبروا ان أي انتخابات تتم تحت حراب المحتل لا مصداقية لها، ولا يمكن ان تكون خطوة في اتجاه الديمقراطية التعددية التي تقتضي تحرير الوطن قبل تحرير الارادة السياسية الفردية. وكذلك شأن التنظيمات الفلسطينية التي قاطعت الانتخابات الرئاسية الأخيرة اعتبرت الاستحقاق فاقداً للشرعية والصدقية ما دام جرى في ظل الاحتلال. من السهل طبعا التذكير بالرأي المخالف الذي يعتبر المسلك الديمقراطي شرطا ضروريا لأداء وتفعيل المقاومة السياسية الناجحة التي تفضي الى التسلح بالارادة الشعبية العامة لتقويض الاحتلال والحيلولة دون التدخل الخارجي.

بيد ان الاشكال الأهم في هذا الحوار الواسع الذي نعيشه حاليا في الساحة العربية لا يتعلق بطبيعة النظر للديمقراطية ذاتها من حيث قصورها وثغراتها، وهي النظرة التي نادرا ما تخلص منها الفكر السياسي منذ بروز المطلب الديمقراطي في خطاب التنوير الغربي منذ القرن السابع عشر.

فالديمقراطية تنعت ضمنا بالهشاشة والضعف، إما لكونها لا تستند لمرجعية مطلقة (بعد انحسار نموذج الدولة الدينية) أو لميوعة مبدأ السيادة الذي تقوم عليه، وما يؤدي اليه من اضعاف سلطة القرار.

وقد طرح رواد التنوير الغربي هذه الاشكالات وناقشوها في كتاباتهم منذ روسو وكانط الى هيغل الذي اعتبر ان حل هذه المعضلة لا يكون الا بتخويل الدولة القومية دورا روحيا مطلقا، يحافظ على مبدأ الحرية والذاتية ضمن منظور كلي يجسد روح الأمة ومعنى التاريخ.

ولئن كان الفكر السياسي المعاصر لا يميل في الغالب الى القطيعة مع الخيار الديمقراطي الذي يشكل مكسبا أساسيا من مكاسب الحداثة والتنوير، الا انه ينبه الى الكثير من الثغرات الراهنة التي يعاني منها هذا الخيار، من قبيل انهيار القاعدة الأيديولوجية للحراك السياسي، واحجام القاعدة الشعبية العريضة عن المشاركة في المنافسات الانتخابية، وتأثير أزمة الدولة القومية على مسار المشاركة الشعبية في اتخاذ قرارات مصيرية أصبحت تتخذ في مستوى التجمعات الاقليمية والدولية..

وبالعودة الى ساحتنا العربية، نرى ان ديناميكية الاصلاح والتغيير الحالية، يجب ان لا تحارب أو ترفض بذريعة التدخل الخارجي الذي أصبح مألوفاً في الشأن الاقتصادي ولا يثير انكاراً، على الرغم من ان اقتصادات أغلب دولنا تسير من مؤسسات التمويل الدولية منذ عقود.

ولقد أثبتت التجربة العينية الملموسة، ان الشرط الاساس لتحرير الأوطان واستعادة السيادة الوطنية والقومية هو تحرير ارادة المواطن، بما يحقق الاجماع العام المنشود، ويعزز القوة التفاوضية للبلد، ويوفر له هامش حراك استراتيجي فاعل يحميه من سليبات ومخاطر التدخل الخارجي.

[email protected]