عليها رزّة الراية

TT

قبل عدّة سنوات، وقبل أن يغزونا الهاتف الجوال، ويهطل علينا من السماء «كالرز»، ولا أدري كيف يهطل الرز؟!، لكنني سمعتهم يقولون ذلك وقلته ـ والإنسان في بعض الأحيان يحتاج لأن يكون «إمّعة».

أعود للسنوات الخوالي حينما كانت الهاتفات شحيحة، وبعد جهاد استطعت أن أركّب هاتفاً في شقتي، وما هي إلاّ برهة قصيرة بعد التركيب حتى «فجعني» الهاتف برنينه، حيث أنني حتى الآن لم أوزع رقمه على أي أحد من أصدقائي أو أعدائي، ومن شدّة الفرحة أخذت أنصت لرنينه وكأنني أنصت إلى صوت محمد عبده، وبعد عاشر رنّة تقريباً، وبعد أن «سلطنت» بما فيه الكفاية من الطرب، رفعت السماعة، وإذا بصوت نسائي في منتهى النعومة يهمس في أذني قائلا: ألو، فقفز قلبي بدون أي استئذان ورددت عليها بصوت أشد همساً قائلاً بلسان «مدلدل»: نعم، أي خدمة «تدلّلي»، فقالت: لو سمحت ممكن أكلم «فلانة»؟ فقلت لها: آسف يا ستي الرقم غلط، وأغلقت سماعة الهاتف بكل هدوء وحنان فيّاض.

ولم تمض أقل من خمس دقائق، وإذا بالمتحدثة نفسها، تسأل أيضاً عن فلانة، ورددت عليها بنفس الجواب، ثم أغلقت السماعة، لكن هذه المرّة بهدوء فقط.

وبعد نصف ساعة تقريباً وإذا بالهاتف «المراهق» يلعلع، وأتاني صوت رجل متحشرج «يسد النفس» وأخذ يسألني وكأنه يحتضر عن فلانة «نفسها»، فقلت له: يا أخي الرقم غلط، وهذا ليس رقمها، وأرجوك لا تتصل مرّة أخرى، فصوتك يزعجني، ثم رزعت السماعة.

وما هي إلاّ دقائق، وعاود الهاتف الرنين، وإذا بصوت نسائي آخر يسأل عن فلانة ما غيرها، وتوالت الاتصالات طوال الليل والنهار، وأنا لا شغلة ولا شغلانة عندي غير: آسف، غلطان، لا تتصل، اقلب وجهك، سوّد الله وجهك، وهكذا من كل المفردات المخجلة التي لا أستطيع أن أكتبها، والتي يحاسب عليها القانون، وأخيراً تيقنت أن رقم الهاتف هذا كانت تمتلكه «أنثى» ومن المحتمل أنها «سيدة أعمال» ملهلبة.

وأخيراً اهتديت إلى فكرة تسلّيت بها في البداية، وأتت أكلها في النهاية، وأصبح كل من يتصل بي من النساء والرجال ويسأل عن فلانة، أقول له: إنها في الحمام، هكذا طوال اليوم وعلى مدار الساعة، إلى درجة أن المتصلين أصبحوا يتندرون، ويتريقون عليها، وكأنها تمارس عملها وأكلها ونومها في الحمام، وشيئاً فشيئاً بدأت تخف الاتصالات إلى أن تلاشت.

وأقول لكم الحق: إنني وددت أن أعرف تلك «الفلانة» لكي أسألها فقط عن تلك الشعبية الجارفة التي تتمتع بها، وهذا الكم الهائل من المعارف والعلاقات.

ليس لكي أستفيد من معرفتها، أبداً أبداً، لكن فقط من أجل أن أقول لها: إنك معلّمة بحق وحقيق، وفوق ذلك ترفعين الراس، أو مثلما تقول الأغنية: «عليك رزّة الراية».

[email protected]