عمق الحدث.. البنك الدولي من ماكنمارا إلى وولفويتز

TT

أثار ترشيح الرئيس جورج بوش، الأربعاء، نائب وزير الدفاع بول وولفويتز لرئاسة البنك الدولي، نزاعا بين اقلية مؤيدة واغلبية معارضة، ومخاوف في اوساط المنظمات المهتمة بإنهاء الفقر ومشاكل العالم.

وولفويتز مهندس الحرب في العراق، جاء ترشيحه بعد اقل من اسبوعين على ترشيح جون بولتون، مساعد وزير الخارجية، سفيرا لأمريكا في الأمم المتحدة. ومثل بولتون، يحمل وولفويتز فكر المحافظين الجدد المشكك في جدوى الدبلوماسية الدولية المتعددة الأطراف، وهو متحمس لحملة استخدام العضلات الأميركية لإصلاح العالم الإسلامي وفرض الديموقراطية، فيما يزيد الترشيحان الشك في رغبة الرئيس بوش تحويل المنظمات الدولية أدوات للسياسة الخارجية الأمريكية.

وولفويتز «رجل عطوف وشريف»، في وصف الرئيس بوش، و«صاحب خبرة دولية مميزة»، حسب وزير الخارجية البريطاني جاك سترو، لكن تلك ليست مؤهلات كافية لشغل المنصب. كان سفيرا في اندونيسيا في الثمانينات قبل ادارة شؤون السياسة الدفاعية في ادارة بوش الأب، وقبلها مساعد وزير الخارجية لشؤون شرق اسيا وحوض الباسيفيك، وليس بين هذه المناصب ما يعتبر خبرة في مهام البنك الدولي. ويقول كبير اقتصاديي البنك السابق جوزيف ستيجليتز، وحامل جائزة نوبل: «إن تعيين الجنرال المناسب في الحرب ضد الفقر قد لا يضمن بالضرورة نصرا نهائيا، لكن اختيار الجنرال غير المناسب من المؤكد ان يزيد احتمالات الفشل». معارضة ترشيح وولفويتز جاءت من «العالم القديم» مثل حركة تنمية العالم، وهي منظمة بريطانية وصفت الترشيح بأنه «مفزع»، وكذلك منظمات مثل اوكسفام وجرين بيس (جماعة السلام الخضراء). وقد وصفه جيفري ساكس، المستشار الخاص لكوفي انان، المتخصص في التنمية بـ«مفاجأة غير متوقعة، وقد تكون غير موفقة من عدة جوانب».

وبدلا من استباق الأحداث فلنفحص الدور المطلوب من البنك الدولي في الوقت الراهن. اختيار وولفويتز يعود بالذاكرة الى الأعوام ما بين 1968 و1981، عندما تولى وزير الدفاع السابق روبرت ماكنمارا، منصب رئيس البنك الدولي ـ وبالمناسبة رئيس البنك الذي يضم 184 عضوا، دائما امريكي. كان ماكنمارا من مهندسي الحرب الفيتنامية وعديم الخبرة الأقتصادية. كان يقيس نجاح العمليات العسكرية في فيتنام بحساب ارتفاع وانخفاض عدد حقائب الجثث الواردة، فقاس نجاح البنك بعدد القروض وحجمها، بصرف النظر عن جدوى هذه المشروعات في تحقيق النتائج المرجوة. وكانت النتيجة اغراق العالم الثالث في الديون.

تأسس البنك الدولي للإنشاء والتعمير بمبادرة امريكية عام 1944، ليكون الدينامو المحرك لعملية الإنشاء واعادة التعمير بعد سنوات الحرب الثانية المدمرة، وخلال العقود الستة، منح البنك قروضا وإعانات زادت على 400 مليار دولار. والفكرة عند الإنشاء كانت تدويلا للنجاح المحلي لحكومة وادي تينسي المحلية، او ما عرف بنموذج الصفقة الجديدة في رأسمالية الدولة New Deal-style state capitalism. حقق البنك نجاحات معتبرة عندما فصل القروض حسب الحاجات السياسية والاجتماعية الإقليمية نحو السلام والتنمية. فمثلا عند تمويله باكستان بقروض بناء السدود عام 1949، اصر البنك على التوصل لاتفاقيات استفادة من المشاريع لجميع دول احواض الأنهار ـ الهند وباكستان وبورما ـ وكرر الأمر مع تركيا وسوريا عام 1953.

توخت ادارة البنك وقتها الحذر في منح القروض وأصرت على دراسات جدوى وموافقة الأقليات العرقية وأخصائيي البيئة قبل منح القرض.

لكن نظرية الاقتصادي السويدي جونار ميردال عام 1956، ادت بخبراء البنك الدولي للاعتقاد بضرورة تولي النموذج الاشتراكي المركزي للدولة لخطط التنمية. وادى هذا الاعتقاد الخاطئ ـ والذي ضرب عرض الحائط بأسس القوانين الاقتصادية للاستثمار والتنمية ـ الى الحاق اضرار فادحة بالبلدان النامية التي يفترض ان يساعدها البنك، حيث انتهت القروض الى جيوب الإداريين والوزراء في انظمة العالم الثالث الفاسدة، بينما استمرت الشعوب الفقيرة المطحونة في دفع فوائد القروض التي هرب اغلبها الى الحسابات السرية لحكام الانقلابات العسكرية والمسؤولين الفاسدين في بنوك سويسرا.

وعندما تولى ماكنمارا رئاسة البنك، ضاعف من القروض، التي بلغت المليارات، وساعدت على دعم ديكتاتوريات في افريقيا مثل اثيوبيا وموزمبيق، وبنيت مشروعات هندسية بالغة السوء او اضرت بالبيئة او اقتلعت الملايين من اوطانهم الأصلية. ولم تفرق ادارة ماكنمارا بين الحكومات المنتخبة شرعيا والديكتاتوريات كتنزانيا تحت حكم جوليوس نايريري الذي كان يتباهى باستجابة ماكنمارا لكل طلباته!

والطريف ان اليسار الأوروبي ـ والشرق اوسطي بالتبعية ـ الذي يهاجم البنك الدولي على انه اداة الرأسمالية العالمية لاستغلال الشعوب، وجد في المحافظين الجدد حليفا في الهجوم على البنك الدولي، والأخيرون ينتقدونه لأنه لم يدفع بأجندة الرأسمالية العالمية بما فيه الكفاية!

اما الاقتصادي الذي اثر على فكر المحافظين الجدد فيما يتعلق بالتنمية الدولية، فهو ليبرالي بريطاني من يسار الوسط، البروفسور باوير من مدرسة لندن للدراسات الاقتصادية، وكان اول من نبه الى خطورة ما يفعله خبراء البنك الدولي من مدرسة ماكنمارا والذين ظلوا يؤثرون على سياسة القروض في عهد الرئيس الحالي جيمس وولفينسون، رغم ان السنوات الأخيرة ـ منذ توليه عام 1995 ـ شهدت تحولا عن سياسة منح قروض ضخمة لتمويل مشاريع وهمية وسدود عديمة الفائدة. ومنذ الثمانينات جادل البروفسور باوير بأن تحرير الاقتصاد، واتباع قواعد السوق الحرة، والعقار والاستثمارات الخاصة تحت حكم القانون الذي يساوي بين الجميع ويحمي دافع الضرائب، هي مفاتيح أساسية لقيادة قطار التنمية. وكانت دراسته التي فجرت القنبلة في العقد الماضي، عن التجارة في غرب افريقيا والتي اثبتت ان عدم تلقي الدعم كان أكثر نفعا ودفع بالقطاع الخاص لتولي مشاريع التنمية، في حين أصيبت البلدان التي تتلقى الدعم «بكسل العاطل الذي يتلقى اعانة البطالة». وجاء بمقولته الشهيرة بأن البلدان الفقيرة تحتاج الى «فتح الأسواق الأجنبية امام منتجاتها، بدلا من تلقى الدعم او شطب الديون».

لكن ادارة وولفينسون، اتبعت المقولة بتطرف، رافضة منح دعم لبلدان فقيرة، رغم طلب ادارة بوش، هي بالفعل في حاجة اليها.

وإذا اعطينا الرئيس بوش فائدة الشك، بدلا من رفض تعيينه تماما، فانه مثلا لم يستمع لنصيحة تيار من المحافظين الجدد بزعامة نيكولاس ايبرشتادت الذي يطالب بخصخصة البنك الدولي، وإنما اكتفى بترشيح وولفويتز له. وقد قال وولفويتز نفسه يوم الأربعاء، ان مبدأ الرئيس بوش في فرض الديموقراطية ليس اجندة البنك الدولي والتي حددها «بانتشال البلايين من الناس من الفقر، ومحاربة مشاكل مثل الايدز والأمراض الاستوائية، بشكل منفصل عن الأجندة الأخرى، وهي تنمية اقتصادية على اسس وقواعد صحيحة وقوية لدعم نشر وتقدم الحرية».

ولذا فالتحدي الحقيقي لوولفويتز، ليس العالم الثالث، بل اقناع العالم القديم، بأن اخطاء حرب العراق، لن تجعله يكرر اخطاء ماكنمارا.