مئوية بولو.. ثعلب او ضبع؟

TT

قدّم جان بول سارتر الى العالم العربي رجلان: الأول هو الدكتور عبد الرحمن بدوي، الذي تأثر بالأدب والفلسفة في فرنسا، وأمضى عمره يدرّسهما في جامعات القاهرة وبيروت، وفي النهاية أمضى الهزيع الاخير من حياته في غرفة باريسية عادية في فندق «لوتيسيا»، وهو اسم فرنسا القديمة. وبعد وفاة الدكتور بدوي حاولت ان اعدّ مجموعة من الزوايا عنه. وذهبت الى فندق «لوتيسيا» وحاولت طرح بعض الاسئلة على مديره. وكان الجواب مقتضباً: «ليس من عادتنا ان نبحث في خصوصيات زبائننا، وخصوصاً الدكتور بدوي».

قدّم بدوي الى تلامذته العرب، سارتر الفيلسوف. وكان يقتضي رجل في مثل ثقافتي بدوي، العربية والفرنسية، لكي يترجم «الكائن والعدم» في تعقيداته وأغواره. وقدّم الدكتور سهيل ادريس الى القراء العرب، سارتر الأديب، وعرّفهم الى مؤلفاته الأدبية، كناشر ومترجم معاً، فيما تولت زوجته عائدة مطرجي ادريس تقديم رفيق سارتر ومحسوده، البير كامو.

ثمة صف طويل من الأدباء العرب الذين تأثروا بسارتر على نحو ما، ولحقوا به الى «الوجودية». وهو، للمناسبة، تعبير لم يستخدمه سارتر على الاطلاق وانما استخدمته الصحافة الفرنسية واخذ عنها. ومن الصعب ان نحدّد من كان الاكثر تأثراً بسارتر.

لكن لا شك ان يوسف ادريس كان احدهم. ولا شك ايضاً ان نجيب محفوظ أدمن قراءته. وكان الروائي الراحل فؤاد التكرلي من الذين اخذوا بأعماله. اما في لبنان، فكان الروائي فؤاد كنعان اول «الوجوديين». وعندما صدرت روايته «قرف»، كان واضحاً انها امتداد لكتابات سارتر وروايته الشهيرة «الغثيان»، التي صدرت للمرة الأولى تحت عنوان «الحزن».

كان لسارتر في حياته ما اراد. وقد اراد ان يكون مثيراً للجدل. وفي الأربعينات وصفته الكنيسة الكاثوليكية والحزب الشيوعي معاً بأنه «عدو للمجتمع». ووضع الفاتيكان مؤلفاته على لائحة الكتب المحظورة في حين وصفه الكسندر مداييف، المفوض الثقافي عند ستالين بأنه «ثعلب معه آلة طابعة وضبع يحمل قلم حبر». وكما رفض جان جاك روسو ان يتزوج من ام اولاده، رفض سارتر الزواج من سيمون دو بوفوار التي رافقته طوال عمره كزوجة وطباخة ومديرة اعمال وحارسة وممرضة. لكن هي ايضاً عاشت حياتها الجانبية الخفية. وقد تحدثت عن ذلك في بعض كتبها. وكانت اشهر قصصها مع الروائي الاميركي نلسون الغرين الذي اقدمت على نشر رسائله اليها في كتابها «ذروة الحياة». ولدى صدور الكتاب كان الغرين قد اصبح في الثانية والسبعين. وذات يوم زاره صحافي من اجل مقابلة حول الموضوع، فعبّر عن غضبه الشديد لتصرّف دو بوفوار. واستشاط غضباً. ثم اصيب بنوية قلبية ومات.

كانت شخصية سارتر شديدة التعقيد، لكنها كانت خصوصاً شديدة القسوة. وكان حسوداً وكارهاً ومعادياً للأخلاقيات. وقد عادى وعارض واختلف مع البير كامو، اعظم كتّاب فرنسا آنذاك واليوم، لكنه كرس 720 صفحة لكتاب عن جان جونيه وهو لص شاذ امضى سنوات في السجن. وبسبب سارتر اصبح جونيه كاتباً معروفاً في مرحلة ما. وكان احد «لاجئي طنجة» الادبيين الذين وضع عنهم محمد شكري كتاباً، او ربما نصف كتاب. وقد ازداد عداء سارتر لالبير كامو بعد فوز الاخير بجائزة نوبل. وعندما منحت الجائزة له بعد سنوات رفضها في العلن لكنه طالب بقيمتها في السر.

ادعى سارتر الالتزام: التزام المبادئ والافكار، بينما التزم كامو الحرية والانسان. ومثل اورويل في بريطانيا كان ضد النازية والشيوعية في وقت واحد. فالشفافية الانسانية تفرض عليك محاربة الظلم في المطلق وليس ان تختار بين نوعين من الظلم والاستبداد. فليس هناك استبداد افظع او استبداد اقل فظاعة.

ذات يوم كنت اتناول طعام الغداء في «الاكروبول» في جادة «المونبارناس»، مع بعض الزملاء اللبنانيين. واذا بموكب جنائزي صغير يمر. وسألنا فقيل لنا انه وداع سيمون دو بوفوار. وكان ذلك اليوم الاخير في حياة الاسطورة الثنائية الكاذبة التي طغت على الحياة الأدبية في العالم طوال عقود. والآن في مئويته يكتشف النقاد بهدوء ان اكثر ما في تلك الاسطورة، كان حذاقة سارتر في تركيبها.