ألغاز الديمقراطية الوافدة

TT

أصبحت الدعوة لتطبيق الديمقراطية تتردد على مستويات متعددة، لعل أهمها دعوة أميركا لتطبيق الديمقراطية في كل بلاد العالم، خاصة الدول العربية والإسلامية. بل إن السياسة الخارجية الأميركية، خاصة منذ ولاية الرئيس جورج دبليو بوش الأولى والثانية، جعلت تطبيق الديمقراطية في دول العالم النامي، ومنها الدول العربية والإسلامية، جزءا أصيلا من جدول أعمالها، ومسؤوليتها الأولى. فالسياسة الخارجية الأميركية، ترى أن عليها تطبيق الديمقراطية، وتحقيق الحرية لدول العالم، كما جاء في خطاب الولاية الثانية للرئيس جورج بوش. ويقوم هذا الخطاب على فرضية أن الشعوب تريد هذه الديمقراطية، وستقوم أميركا بتحرير الشعوب من الحكم الاستبدادي لتحقق لهم الديمقراطية والحرية. وما يحدث في العراق وأفغانستان، هو نموذج لنشر الديمقراطية والتحرر، من خلال القوة الأميركية النافذة، بما فيها القوة العسكرية. ومن الضروري التحفظ على مسألة تبني أميركا كقوة عظمى لبرنامج لتغيير العالم، مهما كانت الشعارات. فالأمر يعني التدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم، وكأن السياسة تتحدد من خلال القوة العظمى، وتطبقها الدول الأضعف، أو نقول الدول التابعة. وعلينا أن نسأل، كيف يمكن تحرير شعوب العالم من دون أن يكون لها رأي في ما يحدث؟ وهل هذا التوجه هو محاولة لفرض الهيمنة الأميركية على العالم؟

وإذا تجاوزنا مسألة تحرير العالم، سنرى أن السياسة الأميركية قد حددت صورة لنظام الحكم، واجبة التطبيق، بدعوى أنها مطلب شعبي، وتلك الصورة هي مفتاح فهم السياسة الأميركية، وتحديد غاياتها النهائية. فالهدف من التحرر على النمط الأميركي، هو تطبيق النظام السياسي الديمقراطي، لذا علينا أن نحدد شكل هذا التطبيق كما يحدث في العراق وأفغانستان، وكذلك في فلسطين. وأول ما نلاحظه، أن تحرير شعوب المنطقة، يعني تخليصها من أنظمة سياسية أو تيارات سياسية، لصالح أنظمة وتيارات أخرى. ويفهم من ذلك، التخلص من التيارات السياسية «الاستبدادية» لصالح التيارات السياسية «الديمقراطية»، وكذلك التخلص من التيارات «الإرهابية» لصالح التيارات «التحررية». والواقع يؤكد أن السياسة الأميركية هي التي تصنف التيارات السياسية وتحدد المسموح والمرفوض. والحقائق تؤكد أن فئة التيارات «الإرهابية» تتوسع لحد يشمل كل معارضة للسياسات الخارجية الأميركية، وكل معارضة للسياسات الإسرائيلية. فكل من يعارض السياسة الأميركية الإسرائيلية، يكون ضد الديمقراطية، وبالتالي لا يجوز أن يكون له حرية العمل داخل التجربة والتطبيق الديمقراطي.

وفي الكثير من الحوارات والكتابات العربية، والتي يتبناها دعاة الديمقراطية من العرب، المنتمون للمشروع السياسي الغربي، نرى تلك التصنيفات التي تحدد من يحق له العمل من خلال النظام الديمقراطي، ومن يعتبر عدوا للديمقراطية، وبالتالي لا يكون له الحق في العمل السياسي داخل أي نظام ديمقراطي. والمشكلة تتمثل في مفهوم المعاداة للديمقراطية، ففي التصور الأميركي المطبق في العراق مثلا، نجد أن من يخالف السياسات الأميركية، يصبح عدوا للديمقراطية. لكن الأهم من هذا، أن من يخالف المشروع السياسي الغربي، يعتبر عدوا للديمقراطية أيضا. من هذا يتضح الجانب الأساسي في مأزق الديمقراطية. فالأمر ليس فقط بسبب التدخل الخارجي وفرض الهيمنة، ولكن الأمر يتعلق أيضا بما هي التيارات المسموح لها بالعمل من خلال النظام الديمقراطي. ومعظم السياسات الغربية، وأيضا مواقف المثقفين العرب من وكلاء المشروع الغربي، تؤكد على أن الديمقراطية نظام يسمح بالعمل السياسي الحر للمشروعات السياسية الغربية، أي التي تنتمي لمرجعية التجربة السياسية الغربية. فالديمقراطية التي ترتبط بعدد من القيم الغربية الأساسية، ليست نظاما للعمل السياسي الحر، بل هي نظام يفترض أن التيارات الأساسية التي ستمارس العمل من خلاله، تنتمي لنفس مرجعيته الغربية.

وما يحدث في العراق يمثل النموذج الأهم في أول عملية لتصنيع الديمقراطية، رغم أن التوجهات السياسية لا تصنع. ولكن أهمية تجربة العراق أنها تؤكد أن ما تريده أميركا، كنموذج للديمقراطية، يصطدم مع العديد من التيارات السياسية الفاعلة في الشارع العربي، بما يستلزم إعادة تشكيل الشارع السياسي. ومعنى ذلك أن بداية التحرر والديمقراطية، لن تكون إلا بعزل التيارات التي لا تنتمي للتجربة السياسية الغربية كمرجعية لها، وهي في النهاية التيارات المحلية، ومنها التيارات الإسلامية. وكأن الحرية التي تنادي بها الولايات المتحدة الأميركية، هي حرية التيارات السياسية التي تتبع النظام الغربي من دون غيرها. ولعل هذه الصورة أكثر مناسبة لشرح ما يحدث، فالسياسة الخارجية الأميركية، لا تريد تحرير العالم، بل تريد تغريب العالم، وتغريب النظم السياسية، من خلال محاربة الأشكال والنماذج المحلية، لصالح النموذج الغربي الوافد. والهدف النهائي لهذه الخطة، هو فرض الهيمنة الأميركية، ولكن ليس في صورة من صور الاستعمار القديم، بل في صورة الاستعمار الجديد، الذي لا يحتل الأرض فقط، بل يحتل العقول أيضا. ولعل هذا الأمر يلفت الانتباه لتغير الهدف الامبراطوري، بين استعمار قديم وآخر حديث. فالامبراطورية الأميركية الحديثة، تقوم على إعادة إنتاج العالم داخل نموذج سياسي واحد، بهدف تعظيم مدى نفاذ النظام الرأسمالي العالمي، وتوحيد الأسواق، والسيطرة على حركة التجارة، والسيطرة أيضا على منابع المواد الخام ومنها النفط. ويبدو أن الاستعمار الحديث لا يتحقق من خلال السيطرة على مقدرات البلاد المستعمرة، كما كان يحدث في الماضي، بل يتحقق من خلال تحويل البلاد المستعمرة أو المهيمن عليها إلى عناصر نشطة وفاعلة في تنفيذ المشروع السياسي الغربي، بل نقول المشروع الحضاري الغربي. وقد يكون هذا التحول الجديد، من استعمار الأرض، إلى استعمار العقول، بسبب تضخم النظام الرأسمالي، وحاجته المستمرة إلى ضم بلاد وشعوب إلى فلكه.

وعندما نتناول قضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي، علينا تعريف المفاهيم تعريفا دقيقا. فلا يكفي القول بأننا نريد الإصلاح من الداخل لا من الخارج، أو نقول إننا نريد الإصلاح أن يأتي من الداخل قبل أن يأتينا من الخارج، بل علينا التفرقة بين إصلاح يأتي بالنموذج السياسي الغربي، وإصلاح يأتي بنموذج سياسي خاص بحضارتنا ويعبر عن جمهور الأمة. فالإصلاح المقبل من الخارج، يهدف إلى ممارسة الديمقراطية بين المؤمنين بالمشروع السياسي الغربي. وهو بهذا يحيد جماهير الأمة، ويمنع أي بديل سياسي محلي، نابع من الخصوصية الحضارية والثقافية للأمة. ولهذا يصبح السؤال المحوري حول دلالة الديمقراطية، فهل هي منهج عمل سياسي يصلح للتطبيق في كل بلاد العالم؟ أم أنها نظام قيم غربي، يؤدي تطبيقها إلى تغريب النظام السياسي وسقوطه في التبعية الحضارية؟

والحقيقة أن الديمقراطية تمثل نظاما للقيم، وبالتالي فهي تنتمي للحضارة الغربية وقيمها. وما نحتاجه في الإصلاح الداخلي النابع من حضارتنا، هو أن نقتبس أساليب العمل الديمقراطي، التي ثبتت فاعليتها في التجربة الغربية. فالانتخابات مثلا، تمثل وسيلة نافعة للعمل السياسي، بما تشمله من تعدد سياسي، وتنافس حر بين الجماعات السياسية. لهذا نحتاج بالفعل إلى إصلاح سياسي، يستفيد من التجربة الغربية، من دون أن ينقلها ويعيد إنتاجها، أي إصلاح سياسي يسمح بتكوين تيارات سياسية تعبر عن الأمة، وليس تيارات سياسية تابعة للتجربة الغربية.

لهذا لا نرى أن الفرق بين الإصلاح من الداخل والإصلاح من الخارج، يكمن في مسألة ممارسة الضغط الخارجي، وما يتبعه من انتقاص من السيادة. فمشروع الإصلاح الأميركي، يقوم أساسا على إهدار حق الأمة في اختيار النموذج السياسي المناسب لها. فالتحرر الذي تحاول السياسة الخارجية الأميركية نشره في بلادنا، هو محاولة لفرض تحررنا من قيمنا لصالح فرض القيم الغربية، وكأن حضارتنا هي الاستبداد والإرهاب، الذي تريد الولايات المتحدة الأميركية تحريرنا منه. وما يحدث في العراق يمثل النموذج الأوضح لتلك الهجمة، فالقوة المفرطة تستخدم لإعادة تشكيل العقل العراقي، كنموذج لتغيير العقل العربي والإسلامي، وبهذا تصبح الديمقراطية كمشروع غربي، عملية هيمنة واستعمار، لا للأرض فقط، بل للعقل أيضا. وهي بهذا تمثل محاولة للإبادة الحضارية، نظن أنها غير مسبوقة تاريخيا. ففي الماضي كانت الإبادة للناس أنفسهم، أما الآن فقد أصبحت إبادة للعقل الجمعي وللحضارة، أي محاولة لإعادة إنتاج البشر، وتصنيع للعقول والثقافة والحضارة.

* كاتب مصري

وأحد مؤسسي «حزب الوسط»