في التأخير حسنات!

TT

سيئ إلى حد كبير ومخيب للآمال إلى حد بعيد، هذا التأخير في تشكيل الحكومة العراقية الانتقالية، فالبلاد في سباق حام للغاية مع الزمن من أجل الانتصار على الإرهاب ودحر الإرهابيين وتحقيق الأمن والاستقرار والانطلاق بعملية اعادة الاعمار التي تمسّ حاجة كل عراقي إليها أكثر فأكثر كل يوم، بل كل دقيقة.. أي من أجل فتح بوابة الضوء التي ظل العراقيون يتلهفون بشوق إليها عقودا عدة ورأوا منها منذ سنتين كوّة صغيرة في نهاية النفق المظلم الذي حبسهم فيه نظام حزب البعث.

لكن هذا التأخير فيه بعض الحسنات أيضا، وأولها أنه يقدّم تمرينا على الممارسة الديمقراطية التي لا يعرفها العراقيون ولم يعرفوها في حياتهم مطلقا. فانتخابات 30 يناير )كانون الثاني( الماضي، كانت بالنسبة لتسعين في المئة منهم، وربما اكثر، هي اول تجربة من نوعها في حياتهم (آخر انتخابات برلمانية جرت في العراق كانت في العام 1954 وعطل ارشد العمري البرلمان يوم افتتاحه، فيما حلّه نوري السعيد لاحقا من دون ان يعقد جلسته الثانية، لأن تسعة ـ نعم تسعة فقط ـ من ممثلي المعارضة الوطنية الليبرالية فازوا فيها مقابل 126 نائبا مواليا).

ومن الجميل أن نرى العراقيين يعطون انطباعا مغايرا للصورة النمطية المشكلة عنهم، وهي أنهم عصبيون ولا يعرفون غير العراك والصراع بالاسلحة البيضاء والسوداء. فها هم زعماء الاحزاب يتفاوضون بصبر ويتقبلون مناورات المنافسين والخصوم لهم ويتحملون الانتقادات الموجهة اليهم والى أحزابهم. وها هو العراق يعيش ازمة سياسية ـ حكومية طال امدها، لكن احدا لا يخشى ان تتحرك قطعات الجيش لتقلب نظام الحكم ولتبث عبر الاذاعة البيان الاول المليء بالاكاذيب وعبارات الخداع، ثم لتسحل رموز النظام المقلوب كما حدث في 14 يوليو (تموز) 1958 أو لتقتلهم في بيوتهم وهم يفطرون مع عوائلهم وتستبيح دماء اعضاء الاحزاب المنافسة وانصارها، كما حدث في الانقلاب البعثي الاول في 8 فبراير (شباط) الأسود 1963 .

ومن حسنات هذا التأخير انه يكشف للشعب العراقي حقيقة سياسييه الجدد، الذين لم يعرفهم من قبل (لم يكن مسموحا للعراقيين ان يعرفوا غير صدام).

ربما صدّق الشعب العراقي طوال السنتين الماضيتيين ان هؤلاء الذين خاطبوه بحماسة باسم الاسلام تارة، وباسم العراق والوطن تارة اخرى، يستحقون ثقته وتضحيته من اجلهم، وان اولئك الذين رفعوا امامه راية الديمقراطية والليبرالية يستأهلون احترامه وتقديره وتعويله عليهم بأن يكونوا ضمانته لعدم الوقوع في براثن دكتاتورية جديدة (دينية)، فها هو يكتشف انهم ـ خصوصا العرب منهم ـ متماثلون، يشبهون بعضهم بعضا، كأنما استنسخهم الطبيب الذي استنسخ النعجة دولي، بل يشبهون صدام حسين. انهم جميعا طائفيون حد النخاع.. طلاب مناصب ومواقع بأي وسيلة وثمن.. الوطن أو الشعب بالنسبة لهم ليس سوى أضحية ينحرونها على مذابح طائفيتهم واطماعهم.

ألم أقل لكم أن التأخير في تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة فيه حسنات؟