إلى التقرير التالي

TT

وحده في عليائه لا يحمد على مكروه سواه. والمعلق العربي لا يستطيع ان يشكو من قلة المواضيع. نظرة على الاخبار او اصغاءة الى الموجز فتصبح المشكلة هي حيرة الاختيار بين الكوارث والمصائب، المقيم منها والمزمن والموعود. ويسمي الزميل جمال خاشقجي ما حدث في الرسّ «الاستقواء بصنع الكوابيس». وكاد يقول اننا اصبحنا امة بلا أحلام. وسوف اكمل ذلك عنه: صحوة الجهل او حمية الجاهلية تسعى الى تدمير ما بناه المعماريون من احلام ومنجزات. ثمة قوى عربية، اقصد في جميع الامة، لا تطيق مشاهد العمران ورؤية الجمال والسعادة، فتقوم الى شيء واحد هو الخراب والقتل.

وفي الخرطوم يتظاهر مليون انسان ضد قرارات الامم المتحدة في دارفور وغدا ينزلون الى الشوارع نفسها لمطالبتها بتطبيق القرار 242 او 338 او سبعة اربعتشر، خمستعشر. وفي الصيف الماضي في قرطبة وعدت صديقي العزيز والطيب الرئيس سوار الذهب بألا آتي على سيرة دارفور بعد الآن. وحريص على الوعد. لكن في صحف امس ان الصادق المهدي غادر السودان بعدما اهدر موظف حكومي دمه بسبب موقفه من مأساة دارفور. وحسنا فعل. فان اسهل الاشياء في العالم العربي هو اهدار دماء الناس وتوزيع القتل مع ساعي البريد. ولذلك كان يوم امس ايضا اعلى ايام الذبح في العراق. والاحصاء لم يكتمل بعد. وفي العالم العربي وحده يمكن لرئيس الدولة المنتهية ولايته ان يترشح لمقعد نيابة الرئاسة كما فعل فخامة الشيخ غازي الياور. ولا يكف العراق عن اغراقنا بالجديد، من دون تحقيق أي مستجدات. وعلى ذلك اصبحت الصحف تتحدث بكل بساطة عن «السنة العرب» و«السنة الاكراد» وليس عن العراقيين. وفي ظل السعادة الديمقراطية الفائقة يقال ايضا الشيعة والصابئة والآشوريون والكلدان والتركمان. وقبل ذلك كان يقال ببساطة وسذاجة، العراقيون. لكن هذه هي الديمقراطية الاميركية مضاف اليها الديموقراطية العربية الخارقة ومضاف اليها طبعا الآن ديموقراطية الاخوة الاكراد.

وفي هذا اليوم التاريخي المشهود، من الخرطوم الى اربيل، صدر «تقرير التنمية الانسانية العربية» الثالث. وقد قرأت منه ما يعادل صفحة جريدة كاملة. اللهم لا تزدني غما. لكن الثابت اننا الجزء الوحيد من هذا العالم الذي يزداد تقهقرا وتأخرا. كل النسب ترتفع في باقي الارض وعندنا ترتفع نسبة التخلف والفقر والموت الجماعي ودارفور والصومال والعراق، ويتحدر مستوى التعليم وتهبط الجامعات الى ما دون نظام الثكنات ويشتد الاستبداد وتزداد الحريات الطبيعية مهانة وذلا ونقصا، وترتفع مستويات الهجرة بين ذوي العلم وذوي الخبرة والاميين والوسطيين وجميع طبقات الناس الهاربين من بلدانهم الى أي مكان يقبل باستقبالهم على وجه الارض، او حتى في عرض البحار.

ولا احد يغبط السيدة ريما خلف، المسؤولة عن التقرير، على هذه المهمة الباعثة على الشفقة والرثاء. كمثل الطبيب المسؤول عن براد الجثث ولا امل بالحياة. والقوة الوحيدة التي نسعى اليها هي قوة الكوابيس كما قال جمال خاشقجي. وهي في كل مكان ودولة، وهي الوعد الوحيد. وكل شيء اخر ممنوع او محظور. جدب في كل المواسم الا في السجون. وحيث يبزغ امل كبير يقتل بجريمة كبرى. واللهم نجنا من حقائق التقرير الثاني. اننا عالم محكوم بسوء الحظ.