الوجه السياسي للحبر البولندي

TT

لم يحظ رحيل أي من البابوات الكاثوليك بالاهتمام الواسع والمثير الذي حظي به رحيل يوحنا بولس الثاني، الذي تم مباشرة على شاشات القنوات التلفزية في العالم كله، وتابعه بتعاطف وحزن ملايين المشاهدين من غير المسيحيين.

فهل هذا الاهتمام الكثيف مجرد أثر للمشهد الإعلامي المعاصر القائم على حضارة الصورة ونمط «الفيديولوجيا» التي خلقت فضاء وجوديا جديدا هو المجال الافتراضي في ما وراء حدي الواقع والخيال؟ أم هو نوع من الارتكاس الرمزي لميثولوجيا الأبطال الخارقين الذين انسحبوا من الكون الرياضي الطبيعي الذي صاغته العلوم والتقنيات الحديثة؟

لقد شهد العالم اهتماما مثيلا برحيل الأميرة الانغليزية ديانا، فُسِر على نطاق واسع بالعاملين المذكورين، بيد أن رحيل يوحنا بولس الثاني اقترنت فيه وتشابكت دلالات ورموز عديدة، يتعلق بعضها بمساره الشخصي المتميز، ويتعلق بعضها الآخر بمنزلة ومستقبل الكنيسة الرومانية في عالم اليوم.

فغني عن البيان أن شخصية البابا الراحل استثنائية وفريدة بكل المقاييس، بدءاً بمنشئه البولندي في أسرة متوسطة عرفت ذل السيطرة النازية والاستبداد الشيوعي، ومساره الذاتي كفتى قوي البنية جمع بين صلابة العامل اليدوي وجلد الطالب اللاهوتي، انتهاءً بوصوله غير المتوقع لسدة السلطة الروحية الكاثوليكية بعد قرون من استئثار الباباوات الإيطاليين بهذا المركز المرموق.

وعلى الرغم من أن بعض الأصوات انتقدت مواقف البابا المتشددة في الملفات الأخلاقية والاجتماعية، إلا أن يوحنا بولس الثاني حظي بشعبية عالمية غير مسبوقة، تجاوزت الحيز الكاثوليكي، بل المسيحي الواسع، فكان له قبول واسع في الأوساط الدينية الأخرى، خصوصا في العالم الإسلامي الذي زار العديد من بلدانه في المشرق العربي وأفريقيا، حاملا رسالة المودة والحوار والتسامح.

وعلى الرغم من نأي المؤسسة البابوية عن المواقف السياسية المباشرة منذ انفصام عقدها مع السلطة الزمنية إثر قيام الثورات السياسية والدستورية الأوروبية التي كرست الخيار العلماني، إلا أن البابا الراحل انخرط بقوة في الرهانات الكبرى لعصره في مرحلة دقيقة ومفصلية في تاريخ العالم، انطبعت بانهيار المعسكر الاشتراكي الشرقي ونهاية الحرب الباردة، والانبثاق المشترك لدينامية العولمة الاقتصادية والظاهرة الإمبراطورية وما واكبهما من انفلات العنف الإرهابي وشبح الصراعات الدينية والحضارية.

فكان للبابا الراحل دور فاعل في تقويض الكليانية الشيوعية في بلدان أوروبا الشرقية، خصوصا في بلده الأصلي بولونيا، حيث اضطلع بدور الراعي الرمزي والأخلاقي لعملية التحول الجذرية التي قادتها نقابة «التضامن» العمالية. وكان لهذا التحول كما هو معروف دور محوري في وتيرة الثورات الديمقراطية في باقي بلدان المنطقة.

ومع أن باب موسكو انغلق في وجهه فلم يزرها متحسرا، كما انغلق في وجهه باب بكين، إلا أن صراعه مع الشيوعية تواصل في كوبا بدون كبير نجاح، مقدما وجها جديدا للكنيسة الكاثوليكية التي اتهمت من قبل بحماية الاستبداد والتستر عليه، فإذا بها تصبح طليعة لحركية المجتمع المدني النشطة.

بيد أن البابا الراحل الذي عرف عنه تمسكه الشديد بالمرجعية الكاثوليكية التقليدية، رفض بشدة «لاهوت التحرر» الذي نشأ في أمريكا الجنوبية وشكل وقودا لنشاط حركات التيار المتصالحة مع الدين، فاعتبره «هرطقة شيوعية» وانحرافا عن جادة الصواب.

وكما وقف البابا الراحل بقوة ضد الاستبداد الشيوعي، وقف بالحدة ذاتها ضد العولمة الليبرالية المتوحشة، وسخر المنابر الدولية التي خاطب العالم منها لكفاحه المستمر ضد المرض والجوع والإقصاء، متبنيا مطالب وتطلعات العالم الجنوبي المنكوب.

كما لم يتردد في معارضة القوى الدولية الكبرى، وخصوصا الولايات المتحدة، في سياستها الخارجية، فوقف بشجاعة مع حق الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه وبناء دولته، وأدان احتلال العراق وعارض الحرب الأخيرة.

وعلى الساحة الأوروبية، أدى دورا فاعلا في وتيرة الاندماج الإقليمي، مطالبا بربط «رئتي أوروبا»، حتى ولو لم ينجح في مطالبته بتجديد النسيج الروحي للقارة بصفته الأرضية الثقافية المكينة لوحدتها.

والواقع أن البابا الراحل وإن حقق نجاحات واسعة على المستوى الدولي، وحظي بإجماع عالمي نادر، إلا أنه لم ينجح في مشروعه لإصلاح المؤسسة الكاثوليكية وتحقيق مصالحتها مع المجتمع، خصوصا في أوروبا الغربية التي انخفضت فيها باطراد نسبة الممارسة الشعائرية، في الوقت الذي يتزايد نفوذ وتأثير الكنائس البروتستانية، خصوصا الكنيسة الإنجيلية التي تنتشر بوتيرة مذهلة في أمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا، وتهدد المؤسسة الكاثوليكية في مواقعها التقليدية.

ولئن كان يوحنا بولس الثاني أظهر انفتاحا غير مسبوقا في اتجاه الديانات والثقافات غير المسيحية، إلا أنه لم يتمكن من قيادة حوار مسيحي ـ مسيحي ناجح، فبقيت علاقته بالكنيسة الأرثوذكسية ضعيفة، كما عارض كل الأصوات المجددة داخل اللاهوت المسيحي، وذهب إلى حد وصف الكنائس غير الكاثوليكية بكونها «مجموعات ضالة». وعلى الرغم من مواقفه السياسية التي بدت ثورية، إلا أن مواقفه الاجتماعية وسمت بالرجعية والماضوية من الحركات النسوية والشبابية الأوروبية، مثل تمسكه بقداسة الأسرة التقليدية، ورفضه الإجهاض والحد من النسل...

وبالرجوع إلى رسائله اللاهوتية العديدة التي تنم عن اطلاع واسع على الفلسفة الغربية قديمها وحديثها، يبدو من الجلي أن البابا الراحل وإن كان شاهدا قويا على عصره، إلا أنه ظل في العمق وفيا للتقليد الكاثوليكي الوسيط، رافضا بشدة قيم التنوير الغربية الحديثة، والعلمانية اللادينية، ومنظومة حقوق الإنسان المتجردة من المرجعية الروحية، والليبرالية التعددية المنفلتة من الضوابط والقيود الأخلاقية.

ولا شك أن التحدي الأبرز الذي يواجه الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بعد رحيل يوحنا بولس الثاني، يتمثل في مدى القدرة على التجاوب مع التحول الفكري ـ المجتمعي العميق الذي شهدته المجتمعات الأوروبية في العقود الأخيرة، ويتعلق الأمر بتحد عصيّ، إذا ما استحضرنا انتقال المركز الكاثوليكي لأسباب ديمغرافية إلى الفضاء غير الأوروبي (أمريكا الجنوبية والفيليبين)، وبداية انتقال المركز المسيحي نفسه إلى الكنيسة البروتستانتية في صيغتها الإنجيلية الصاعدة.

[email protected]