بعد «الرس»: «القاعدة» في السعودية تحتضر.. لكن متى يعلن الفكر موتها الدماغي؟

TT

في كل مرة يخرج الإرهاب فيها من جحره ليطل علينا برأسه القبيح، تنثر على جنبات الصحف والقنوات والمواقع الإنترنتية أسئلة وتحليلات يتجاذبها طابعان، الإنكار والشجب والتبرؤ من هذه الأفعال الإجرامية وهذا هو الغالب، أو أن يتم بشكل معاكس التبرير لهذه الجرائم صراحة أو بشكل ملتو يدس السم في العسل. ونجد من يحاول استغلال الموقف ضد الإرهاب الذي بات الآن قضية كونية ملحة ومصيرية للعالم كله; ليحورها بما يتسق مع أجندته الإيدلوجية الضيقة مختلقاً دوافع وأسبابا لا تمت للحقيقة أو الواقع بصلة.

بالأمس تمت أكبر وأنجح عملية استباقية، حصلت على ميدان مدينة الرس، تلك المدينة التي تقع في منطقة القصيم في العمق السعودي، هذه العملية الكبيرة قامت بها قوات الأمن السعودية ضد ما يسمى «بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب».

النجاح الذي نعنيه تمثل في مستوى التعامل مع الحدث حيث استطاعت قوات الأمن الوصول إلى مجموعة الرس «الضخمة»، بمقياس الخلايا التنفيذية للعمليات الصغيرة والتي لا تزيد عن الخمسة عادة، ليتم حصار أكثر من عشرين شخصا من بينهم ثلاثة من أخطر المطلوبين يتصدرهم القائد الميداني المطلوب دولياً عبد الكريم المجاطي، ولا شك أن تواجد مثل هذا العدد وبحوزتهم كل هذه الذخيرة من الأسلحة الخفيفة وبعض الثقيلة والتي جعلتهم يقاومون لمدة ثلاثة أيام متواصلة يدل على أنهم كانوا يخططون لعملية كبرى تعيدهم إلى مسرح الأحداث وصدارة النشرات الإخبارية التي بات التنظيم يرى فيها الوسيلة الوحيدة في إثبات الوجود بعد أن فشل في تحقيق أي من أهدافه أو شعاراته الكبرى، فالرس التابعة لمنطقة القصيم المحافظة لا يمكن أن تكون هدفاً لأي تجمعات غربية مزعومة وفي هذا دلالة على أن التنظيم تحول إلى «شبح» لا يستطيع الحفاظ على سلامة ما بقي من أفراده داخل المدن الرئيسية بسبب تضييق الخناق من قبل السلطات السعودية، وهذا نجاح أمني آخر خاصة إذا أخذنا في الحسبان التقنيات والاساليب العديدة التي يستخدمها التنظيم، والتي لا تبدأ بتزوير الوثائق الرسمية ولا تنتتهي عند ترويع الآمنين بعمليات السرقة والسطو لاستخدام ممتلكاتهم وتجنيدها للعمليات التخريبية.

جديد عملية الرس هو سقوط قائد التنظيم المحلي سعود العتيبي وقائد التنظيم الإقليمي المغربي كريم المجاطي، وهناك أنباء ترددها المواقع الموالية للقاعدة تشير إلى قتل صالح العوفي، ربما كان المجاطي أخطر الثلاثة بحكم خبرته الطويلة مع تنظيم القاعدة وقربه الشخصي من زعيمها بن لادن. فالمجاطي الملقب «أبو إلياس» من أخطر منتجات القاعدة البشرية فهو مطلوب في المغرب والسعودية وعدد من الدول الأوروبية والعربية إضافة إلى الولايات المتحدة على خلفية اتهامه بتفجيرات الرياض والدار البيضاء مايو 2003، ومدريد 11 مارس 2004 إضافة إلى صلته بابن لادن واتهام أمريكا بشكل خاص بعلاقاته المباشرة بأبي مصعب الزرقاي.

كما أن اعترافات المتسللين المغاربة والعرب إلى العراق للقتال في صفوف ما يسمى بـ« المقاومة» تشير بأصابع التجييش والإعداد إلى المجاطي، كما ورد في اعترافات المعتقل على الحدود السورية عبد الحي العصعاص مما استدعى قيام بعض المحققين بقصد مسقط رأسه بمدينة المحمدية شمال الدار البيضاء لأخذ عينات من الحمض النووي له، المجاطي في آخرين من المنتمين لايدلوجية تنظيم القاعدة أو المؤمنين بها يتحدرون من عائلات بروجوازية وبعض منهم تلقى دراسته في أرقى الجامعات الغربية مما تنتفي معه التحليلات الموجهة لأغراض إيدلوجية والتي تحاول تسييس فكر القاعدة بالدرجة الأولى وربما العاشرة وكأنه يمتلك أجندة سياسة مرحلية وما العمليات على الأرض إلا أوراق ضغط وقتية تستدعيها المرحلة ولا شك أن هذا الخطأ في التحليل تنتج عنه نتائج كارثية تؤثر سلباً في التعامل مع ملف الإرهاب والطريقة التي يمكن فيها فهم هذه التنظيمات التي تنطلق من قناعات عقائدية متطرفة بشكل أساسي محاولة تغيير الواقع المعاصر بكل تعقيداته وتفاصيله المتغيرة لتحقيق «الوهم الأكبر» دولة خلافة تجمع الأرض من أطرافها على أقصاها يطبق فيها الإسلام الأصولي الذي لا يمكن تصوره خارج عقول المستلبين بوهم إمكانية تطبيقه.

ما الذي يمكن اكتشافه بعد انتهاء عملية الرس؟ أعتقد أن الإجابة قد تكون مبكرة على هذا السؤال خاصة أن بيان وزارة الداخلية الرسمي، والنهائي، لم يصدر حتى لحظة كتابة هذه السطور إلا أنه ووفق مفهوم الثابت والمتغير في قراءة الأحداث وربطه بما سبق يمكن أن نلاحظ جملة من المتغيرات والثوابت في استراتيجية القاعدة الآن، فمن المتغيرات أن التنظيم المزعوم في جزيرة العرب يلفظ أنفاسه الأخيرة وليس هذا من باب التفاؤل فإيقاع العمليات الاستباقية أسرع وتيرة من إمكانية تجنيد أعضاء جدد للتنظيم خاصة أن هناك قناعة لدى شرائح عديدة من القاعديين بأولوية الجبهة العراقية الآن خاصة مع بروز نجم أبو معصب الزرقاوي في مقابل تراجع المستوى الأمني لبعض المناطق السنية في العراق، ومن المتغيرات تلاشى وانحسار أي دعم شعبي واجتماعي لأي نشاط عنفي يستهدف المجتمع السعودي. فالإرهاب بشكل فواجعه وأجوائه الكريهة لم يعد حديثاً أسطورياً تترك العهدة فيه للراوي القادم من بلاد الأفغان ليضيف إليه من خيالاته أصبح واقعاً قد يستهدف أبناءنا الصغار وأمهاتنا العجائز اللواتي بدأن يتساءلن عن أي إسلام يمكن أن يؤمن به هؤلاء وهذه هي أفعالهم قتل وترويع واستهداف للآمنين وتخريب في أطهر البقاع على الأرض، الآن يمكن الحديث عن مناعة اجتماعية تجاه أفكار القاعدة العنفية لكن الأهم هو إيجاد أيضاً مناعة ضد االفكر الأصولي، غير العنفي، الذي يتقاطع مع القاعدة في جملة من الأفكار المشتركة وإن كان يفضل تغيير العقول بشبكاته الإعلامية والاجتماعية وثقله وتفرده الديني على مستوى العالم.

إن التحول من «الإسلام» الأصولي الذي يختزل رحابة الإسلام ومدنيته وإنسانيته وتسامحه في التجييش والمواجهة واستعداء الآخرين هو المشكلة الحقيقية التي هيأت للإرهاب أن يتعملق ويصبح واقعاً معاشاً بعد أن كان فكرة منبوذة والتماثل في كثير من الأفكار النظرية بين الإسلام الأصولي النظري وبين الممارسة القاعدية هو الذي يجعل تحول أحد أطراف الفريقين للآخر مرهونا بقناعته الشخصية وتقديره للمصلحة، ومهما قيل عن تراجعات وخطاب جديد داخل تيار عريض من الدعاة وهذا يجب أن نثمنه ونشد على عضده، إلا أن التحولات الكبرى على مستوى الثقافة الاجتماعية السائدة للعقل الجمعي الذي تشكل عبر سنوات طويلة منذ انشقاق الحركات الأصولية من عباءة الحركات الإصلاحية الدينية، هذه التحولات بحاجة إلى استراتيجيات ثقافية بديلة طويلة المدى تشارك فيها الحكومات والمؤسسات الرسمية والجمعيات الأهلية المتخصصة بمساندة مراكز الأبحاث المتخصصة في دراسة «الظواهر الفكرية وعلائقها الاجتماعية» صحيح أن بشاعة وكارثية ما يخلفه الإرهاب على الأرض قد يسرع وتيرة إصلاح الخلل والعطب إلا أن الواجب الملقى على كاهل التيارات المعتدلة والمنوط بالرموز الإسلامية التي تخلت عن كثير من أفكارها الثورية السابقة كبير جداً لا لأن كثيرا من طروحاتها السابقة قد تكون مسؤولة ولو بشكل غير مباشر عن هذا الدمار فتلك.

نحشى إن لم يتدارك الوضع من قبل هؤلاء الدعاة المؤثرين أن تتحول قناعات الشباب الصغار باتجاه ترميز الفكرة الثورية بحد ذاتها والبحث من ثم عن أبطال ونجوم جدد يذهبون بالأفكار العنفية إلى أقصاها... ووقتذاك لا تفيد حسرتنا على اللبن المسكوب.

* كاتب متخصص

في الجماعات الاسلامية