دارفور والمعايير المزدوجة.. مرة أخرى

TT

فاجأ عدم استخدام واشنطن حق النقض ضد القرار الذي قدمته فرنسا الى مجلس الأمن، بشأن إحالة الوضع في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، أكثر من جهة، بعدما هدّدت الادارة الأميركية باللجوء الى «الفيتو» إذا لم تحصل على ضمانات شاملة تحمي مواطنيها من الملاحقة القضائية والمثول أمام المحكمة.

وكان هذا القرار موضع تفاوض منذ أن قدمت لجنة التحقيق المستقلة المعنية بدارفور تقريرها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، في 25 يناير الماضي، ويُعتبر هذا القرار التاريخي الذي يحيل فيه مجلس الأمن، للمرة الأولى، قضية إلى المحكمة، تنازلاً هاماً من جانب إدارة الرئيس بوش التي لم تخفِ يوما معارضتها الايديولوجية للمحكمة. وتجلت هذه المعارضة بوضوح في الرسالة التي وجهها جون بولتون، المعيّن أخيراً مندوبا لواشنطن لدى الأمم المتحدة، إلى كوفي أنان في مايو 2002، والتي طالب فيها ابطال توقيع الرئيس كلينتون على النظام الأساسي للمحكمة.

وجاء قرار مجلس الأمن ثمرة اتصالات دبلوماسية مكثفة، وراء الكواليس، بين وزيرة الخارجية الأميركية ونظيرها الفرنسي، توصل مجلس الأمن في اثرها إلى «تسوية» عجّلت في التوصل إليها اعتبارات سياسية أتت على حساب أهم مبادئ العدالة، وهي عدم السماح لأحد بالإفلات من العقاب. فقد استثنى قرار المجلس مواطني الولايات المتحدة وأفراد قواتها العسكرية (وليس جميعهم من الأميركيين)، من احتمال مثولهم أمام هذه المحكمة. لا بل ذهب المجلس إلى حد «أخذ العلم» بما يعرف باتفاقات الحصانة التي وقعتها الولايات المتحدة مع 85 دولة بموجب تفسير مشكوك بصوابيته للمادة 2 ـ 98 من اتفاقية المحكمة التي يعتبر معظم رجال القانون الدوليين أنها تشكل انتهاكا للقانون الدولي ولاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 .

وتنبع معارضة واشنطن الشديدة للمحكمة من تخوفها من استغلال المحكمة لرفع قضايا ذات دوافع سياسية بحق مواطنيها. وقد يكون هذا التخوف في محله، إلا أنه يمكن أن ينطبق على العديد من الدول الأخرى. لكن لدى النظر، عن كثب، إلى اتفاقية روما التي أنشئت المحكمة الجنائية الدولية بموجبها في العام 1998، يتضح أن المحكمة تقوم على مبدأ «التكامل» الذي يحصر اختصاصها في الحالات التي يكون فيها البلد صاحب الاختصاص «غير قادر» أو «غير راغب» في إجراء المحاكمة. وعليه، فإن الأميركيين هم بمنأى عن المثول أمام المحكمة حتى ولو كانت الولايات المتحدة طرفا في الاتفاقية إلا إذا ما اعتُبرت الولايات المتحدة «غير راغبة» في محاكمة مواطنيها المتهمين بارتكاب جرائم حرب. ولا يبدو هذا السيناريو مستبعدا في أعقاب عمليات التعذيب التي شهدها سجن أبو غريب ومعتقل غوانتانامو.

عندما قرر مجلس الأمن تشكيل لجنة التحقيق في جرائم دارفور، في سبتمبر 2004، لم تكن واشنطن تتوقع قط أن توصي اللجنة المجلس بإحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية. ومن المريب أن تتعامل واشنطن مع هذه المسألة بهذا القدر من قصر النظر إلا إذا كانت واشنطن من التعجرف بحيث لم تتوقع أن تتجرأ اللجنة على التفكير في اعتماد هذا الخيار. إلا أن لجنة التحقيق تجرأت على هذا الأمر واضعة بذلك واشنطن أمام وضع صعب: فإما أن تستخدم حق النقض لمنع إحالة القضية إلى المحكمة أو أن «تبلع الموسى» بعدما أخفقت في جهودها الرامية إلى إنشاء محكمة خاصة بدارفور. وقد حمل هذا الوضع إدارة بوش في نهاية المطاف على التراجع لئلا تُتهم بأنها تشجع على ثقافة الإفلات من العقاب في وقت تتهم فيه الخرطوم بانتهاج سياسة الإبادة الجماعية. كما أن استخدام الولايات المتحدة الفيتو كان من شأنه أن يبعث برسالة خاطئة إلى أوروبا «القديمة» تقوض مساعي بوش الهادفة إلى إظهار استعداده للعمل مع باقي دول العالم، في ولايته الثانية، لتجاوز الخلافات الناشئة عن حرب العراق.

وإذا كان صحيحا أن واشنطن تعاني من قصر نظر فهي ليست الوحيدة. فمجلس الأمن قوض صدقيته، مرة أخرى، بتمريره قرارا ينطوي على ازدواج في المعايير ويتضمن استثناءات، ما يؤدي بدوره إلى تقويض صدقية المحكمة التي ستكون محاكمتها لجرائم الحرب رهن الدوافع السياسية للدول الكبرى. فإن تدخل مجلس الأمن في الإجراءات القانونية يبعث على القلق حتى ولو كان يضطلع بدوره هذا وفقا لنظام روما الأساسي. وللمرة الأولى يحيل أمين عام للأمم المتحدة قائمة بالمشتبه بارتكابهم جرائم حرب إلى المحكمة الجنائية الدولية، علماً بأن قرار مجلس الأمن لا يطلب منه ذلك. فالمزج بين ما هو سياسي وقضائي لم يكن محبذاً يوماً.

أما الخرطوم فقد قررت من جهتها تحدي المجلس متذرعة بحجة تحظى بتأييد شعوب عدة، وهي أن دول الشمال تحاول استخدام المحكمة كعصا لقمع دول الجنوب الصغيرة والضعيفة. وهو موقف يشاطرها إياه حتى الراغبين في رؤية مرتكبي جرائم دارفور يمثلون أمام القضاء. وإذا ما استمرت الأمور في هذا المنحى فسينتظر الضحايا في دارفور طويلا قبل تحقيق العدالة والحصول على تعويضات تسمح للناجين بالاستمرار في حياتهم.

لا يبدو أن المجلس سيتغاضى عن قيام الخرطوم بتحدي قراره الذي اتخذه عملا بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فهو سيجبر الحكومة السودانية على تسليم المشتبه بهم تحت طائلة اتخاذ «تدابير» إضافية ـ أي فرض عقوبات أو اللجوء إلى القوة. ولكن عندما لا يزال المشتبه بهما الرئيسان في حرب يوغوسلافيا السابقة، وهما رادوفان كاراديتش وراتكو ملاديتش، طليقين في أرض خاضعة لسيطرة قوات الناتو، بعد 10 سنوات من صدور الحكم بحقهما، لا يمكن إلا أن نستنتج، مرة أخرى، أن «ازدواج المعايير» هي لعبة يتقنها المجلس.

* مديرة مكتب «الشرق الأوسط» في الأمم المتحدة