رئاسة لا دولة!

TT

وعدت اميركا نفسها باعادة رسم خريطة الشرق الأوسط لكن يبدو انها سوف تكتفي باعادة تركيبه مثل بيت من «الليغو» البلاستيكي، الذي يمكن ان نجعل من قطعه أي تصميم نشاء. وبقدر ما هناك مفترقات تاريخية في تغييرات العراق بقدر ما هناك عبث طفولي واستسهال بلاستيكي لرسم تصميم جديد: اولا يوضع الكردي جلال طالباني وليس الكردي مسعود بارزاني على رأس البلاد التي ليس فيها قطعة آمنة سوى الشمال، للمرة الأولى في تاريخ الصراع بين النظام والحركات الكردية: الجنوب متوتر والوسط مدمى والشمال من دخله فهو آمن.

وثانيا كان الشيخ غازي الياور رئيسا للجمهورية في المرحلة التمهيدية الأولى، فأصبح، ببساطة مذهلة، نائبا للرئيس في الجمهورية المجهولة الثانية. في الأولى كان لقبا كبيرا بلا صلاحيات والآن لقب اقل وبلا صلاحيات. وثالثا بدل المستر بريمر او المستر نغروبونتي عينت الولايات المتحدة سفيرا ومفوضا ساميا السيد زلمان خليل زاده، الافغاني الذي ساهم في الكثير من المشورة خلال حرب تورا بورا وسلام كابل، والرجل الذي عرف العالم العربي من خلال دراسته في الجامعة الاميركية في بيروت، حيث بدأ، على ما يظهر، اعجابه بالديموقراطية الاميركية.

لم يعد هناك شيء اسمه العراق كما نعرفه منذ اعلان استقلاله. فالمغلوب الكردي حل في الرئاسة منتصرا وقد لا يخرج. والحل هنا حلان: الأول ارضاء الاكراد باعطائهم الرئاسة، والثاني ارضاء تركيا بعدم اعطاء الاكراد الاستقلال. دولة على الحدود، رئيسها كردي وهويتها عربية وعمقها ايراني وتحضر قمم الجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي وتتحدث لغتين: كردية في الشمال، ينادى فيها طالباني «مام جلال»، وعربية في بقية البلاد، ينادى فيها وفقا لسائر التقاليد العربية، سيادة الرئيس القائد المفدى: بالروح. بالدم.

في المرحلة التمهيدية الأولى ارتضى غازي الياور رئاسة احتفالية في شراكة مع رجل قوي، اياد علاوي. لكن جلال طالباني ليس رجلا احتفاليا. انه صاحب مسيرة شديدة المغامرة والمخاطرة وكثيرة التحولات. ولن تكون صلاحياته في الرئاسة مثل صلاحيات مواطنه طه ياسين رمضان الذي كان الغطاء الكردي لنزعة القمع والحسم والحرب الطويلة عند صدام حسين. ولو كان للرئيس السابق الحق في قراءة الصحف الصادرة في بغداد، لما صدق اطلاقا عدد صباح أمس، واعتبره تزويرا محكما لانتزاع الاعترافات منه. اما ان يصبح جلال طالباني، المنشق على الملا مصطفى بارزاني، المنشق على صدام، اللاجئ الى سورية، المنشق على سورية، المتحالف مع صدام هو ومسعود بارزاني، الخارج عليهما، ان يصبح هو الرئيس، فهذا أمر صعب التصديق. قبل عامين كان اعلان مثل هذا الخبر ضربا من الجنون. اما اليوم، فها هي الديموقراطية الاميركية تتنقل في قصور الحكم: جلال طالباني من رئاسة الحزب الديموقراطي الى رئاسة البلاد. وغازي الياور من رئاسة البلاد الى نيابة الرئاسة. وزلمان خليل زاده الى تطمين العراق بأن المتصرف الاميركي مسلم يجيد اللغة العربية، في الوقت الذي «تستيقظ» فيه و«تصحو» التعددية الألسنية بين النهرين من الاكراد الى الاشوريين الى الدروس التي عادت الى الرواج في اللغة الفارسية! بل يكاد يبدو ان العراق الجديد يتجه نحو لغتين رسميتين، الكردية ثانيهما، أو هكذا ظهر على الأقل من طريقة أداء اليمين الرئاسية.

لا يزال الطريق طويلا في بغداد ولا يزال معقدا. ولا تزال تغييرات كثيرة متوقعة على تصاميم «الليغو». فالتوازن الحقيقي لم يقم بعد. والديبلوماسي المقاتل جلال طالباني سوف يكتشف ان الديبلوماسية والقتال في العاصمة غيرهما في اربيل وجبال كردستان. شاقة هي قضايا العراق. أليس كذلك يا سعادة السفير زاده؟