مرة أخرى مع الوعاظ العلميين الجدد

TT

لم أتعود على التعقيب على ما أكتبه، غير أن كثرة وتنوع التعليقات التي وردتني على مقالي السابق (متى تعود الطيور الى أعشاشها) الاسبوع الماضي، والذي انتقدت فيه ظاهرة تحوُّل العلميين والمتخصصين في علوم بحتة «دنيوية» الى وعاظ وخطباء ومفتين، هذه التعليقات تجعلني ملزما بالتعقيب على القراء الكرام.

وبعد استثناء الردود والرسائل المؤيدة، وهي فرصة لرد التحية، فشكرا لهم. بعد استثناء ذلك، اجد ان خلاصة التعقيبات المعترضة تقوم على احقية الجيولوجي الاستاذ زغلول النجار او مهندس البترول طارق السويدان او جراح القلب، وكنت اعني جراح القلب السعودي خالد الجبير، احقية هؤلاء بالجمع بين علم الدنيا والآخرة، وان ذلك من باب تزكية العلم عبر نصرة الدين به، فكم من متشكك هداه الله على ايدي هؤلاء العلماء، ولاعجب فـ«انما يخشى الله من عباده العلماء» وان حديث هؤلاء في الدين يدعم موقف الاسلام ويبين انه دين يجيب على كل اسئلة العصر.

تقريبا هذه خلاصة الملاحظات التي وردت على نقدي لهؤلاء الاشياخ الجدد.

وجوابي عليها، انني لم اشكك إطلاقا في علم الجيولوجي او معرفة المهندس او حذاقة الطبيب الجراح، فقد أشرت، على سبيل المثال، الى قيمة الدكتور زغلول النجار في مجاله وكونه «قدم عشرات الابحاث العلمية ودرس المئات» وازيد عليها الآن انه مَنْ أسس قسم الجيولوحيا في جامعة الملك سعود بالرياض.

كنت ادعوهم الى مزيد التعمق والانشغال بمجالاتهم حتى نستفيد نحن معشر «البسطاء» المحتاجين الى علمهم وخبراتهم لا الى تأملاتهم الدينية وشروحاتهم في العقيدة الاسلامية... فمشكلتنا في جانب منها معهم اننا نريد منهم ان يفيدونا في علومهم التي تعلموها، لا ان يزاحموا الوعاظ والمرشدين الدينيين في بضاعتهم.

فلغة الارقام تقول إننا مخفقون في المجالات العلمية، وليس أدل على ذلك من تلقي هؤلاء انفسهم شهاداتهم العليا من جامعات الغرب ! كنا نود ان يصنعوا مثل اليابانيين الذين تعلموا مثلهم في الغرب، ولكنهم لم يضيعوا البوصلة في جهود مبعثرة لا طائل من ورائها إلا مزيدا من دغدغة مشاعرنا الحضارية الجريحة.

فطلاب اليابان المبتعثون عادوا الى بلدهم وهم مصممون على نقل العلم والمعرفة الى مجتمعهم حتى يصبح الياباني منتجا للمعرفة والعلم، مثل من ذهب اليهم ليستهلك من نتاجهم المعرفي والعلمي، وكنت قرأت اشياء جميلة للنجار بهذا الصدد، لكنها انغمرت في بحر مواعظه «وتعجيزاته» الغريبة.

لا نتهم النيات، ولا نشكك في المقاصد، فقد لا يكون الامر كله انتهازية او تملقا لمشاعر القوة الغالبة العالية الصوت لأنه من الجائز تماما ان يكون الامر مبنياً على قناعة فكرية معينة.

حدثني طبيب نفسي سعودي حاصل على الزمالة من كندا وأميركا، انه ينتقد زميلا سعوديا له، يردد مقولات لا علمية حول الطب النفسي تقوم خلاصتها الى الزعم بوجود اثر معين لممارسات دينية على الامراض النفسية. ويقول محدثي، وهو بالمناسبة انسان محافظ، انه لا يوجد برهان علمي على ما يقوله، وهو يعرف ذلك، ويشير الى دراسة اجريت اواخر التسعينات في كاليفورنيا وجنوب افريقيا قامت بها بعض الكنائس الكاثوليكية عبر تقسيم عنبر مرضى القلب في العناية المركزة الى مجموعتين: «ألف» و «باء»، وطلب من كناس كاثوليكية معينة ان تدعو الرب من اجل ان يشفي مرضى مجموعة «ألف» فقط، وبالفعل حدث اثر ايجابي على مجموعة «ألف» فقط !.

النتائج عرضت على اكثر من مجلة علمية متخصصة لنشرها، فرفضت كلها لان هناك قوادح علمية ومنهجية فيها.

إذن، في بعض الاحوال، قد يكون توظيف الدين في العلم ناتجا عن حالة شعورية انسانية عامة تتجاوز الاسباب الخاصة بكل مجتمع وثقافة، كما هو الحال معنا في تفسير هذا الهوس العلمي بالفوات الحضاري، مع ان الظاهرة لا مانع من تفسيرها بأشكال متعددة تتكامل ولا تتناقض.

وأمر آخر قد يفسر محالاوت المزج ما بين نتائج العلوم الحديثة وما بين «ما يظن» أنه نتائج النصوص الدينية، هذا الامر يكمن في محاولة القول للغرب او من يعجب به من ابناء المسلمين: أرأيتم إننا نحن ايضا «نعرف» مثلكم، ولا تتوهموا أنكم سبقتمونا الى جنة العلم وانواره...

ومن هنا نفهم الإلحاح المستمر على قصص الإعجاز العلمي، انه يعكس شكا قابعا في اللاشعور، الدكتور النجار من ابرز فرسان هذا الميدان، وله مساهمات كثيرة فيه، سواء في المقالات او المقابلات.... الخ.

هذه الكوة الجديدة، التي حاول هؤلاء العلميون فتحها ما بين العلم والدين، تسببت بتدفق مدخلات مربكة على الواقع العلمي الديني السابق، والذي كان قائما على ان «العلم» الحقيقي والمقصود في ألفاظ القرآن والسنة هو علم الشرع، او كما قال بعض السلف : العلم قال الله، قال رسوله، قال الصحابة ليس خلف فيه.

لكن، ومع استمرار النمو العلمي، وانعكاس نتائجه واكتشافاته على الحياة الانسانية كلها، ومع استمرار تخلف المسلمين الواضح، وفي نفس اللحظة الاحساس بالجرح النرجسي الكبير، اتت دعوة الإعجاز العلمي لتحاول ان تبلسم هذا الجرح.

والحق اننا لسنا بحاجة الى ذلك، فالقرآن الكريم، ليس مسؤولا عن تخلفنا العلمي، فهو كتاب هداية وارشاد وخطوط أخلاقية ومبدئية عامة تهدي وتلمح وتشكل الاطار الواسع للهوية، اما ما يصنعه دعاة الإعجاز العلمي، او مستخرجو علم الادارة وهندسة الذات وعلم البرمجة اللغوية العصبية من نصوصه المقدسة، فإن كل هذا لا يعني الا شيئا واحدا: هو تشويه القرآن، وتعريضه للهجوم من قبل خصوم الاسلام، والذين بالفعل قاموا بذلك لتكذيب وتفنيد دعاوى الإعجاز وصولا الى القدح في القرآن الكريم نفسه.

واننا حينما نقول ان دعوى الاعجاز العلمي اتت بفعل القهر العلمي الغربي، فإن ذلك لا يعني حداثة القول بالإعجاز، فهو قول له جذور قديمة ومشابهة، ادت بعالم كبير مثل الشاطبي الاندلسي ( توفي 790 هـ / 1388) الى نقدها والقول بأن «كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا اليه كل علم ُيذكر للمتقدمين والمتأخرين».

وفي العصر الحديث قال الشيخ الازهري المصري عبد المتعال الصعيدي (توفي 1947) : «مقاصد القرآن لا تخرج عن الوظيفة الدينية للقرآن، لانه نزل لتشريع العقائد والأحكام. فيجب ان يقف عند حدودها. فلا يقصد منه غير هذا من بيان مسائل التاريخ أو الطب أو غيرها من العلوم».

التهافت على اثبات اختصاص النص المقدس بكل الحقائق العلمية والكونية ليس حكرا على المسلمين، فهناك اناس ينتمون لثقافات او ديانات اخرى، غير الاسلام، فعلوا مثل ذلك، فصبغوا ما تعلموه في الطب او الفيزياء بمرجعياتهم الدينية والثقافية، وقالوا ان معجزة ضياء الشمس ونور القمر والتفريق ما بينهما مذكورة في الإنجيل من قبل، وهناك من قال ان نبوءات العراف نوسترا داموس قد احتوت على كل شيء، وفي كل لحظة يتم قراءة نصه بشكل مختلف لينسجم مع الحدث او المعطى الجديد، بل ان ذلك الهوس تجاوز الديانات الى الصرعات الثقافية والروحية الجديدة، كما مع طائفة الرائيليين التي تحاول تسخير ثمار العلم والمعرفة الحديثة وانجازاتها لتنسجم مع عقائدها الدينية الحديثة. ويعتبر رائيل، واسمه الاصلي كلود فورليون، مؤسس الحركة الدينية، ان الحياة على الارض اساسها كائنات من الفضاء الخارجي وان «الاستنساخ يفتح ابواب الخلود امام الانسانية»، ولذلك نشط اعضاء الطائفة في مجالات الاستنساخ لتجسيد افكارها وتسريعها، وخرج منهم اطباء وخبراء على مستوى رفيع، مثل الدكتورة الفرنسية بواسولييه، التي قامت بعملية استنساخ مثيرة، في يناير 2003 .

فما الذي يجعل خلط بعض علمائنا ما بين العلم والدين حقا ويجعل خلط بعض علمائهم باطلا.

في النهاية لدي سؤال: لو كان الدكتور زغلول النجار، او المهندس طارق السويدان، او الجراح خالد الجبير، ولدوا لآباء مسيحيين او هندوس او بوذيين، او انهم كانوا طلابا صودف انهم اقتنعوا بصرعة الرائيليين، هل كانوا سيفسرون لنا العلم من خلال مرجعياتهم تلك ؟

لو نظرنا بعيون اخرى وراء سطوح الاشياء، لرأينا شكا مدفونا يقبع وراء هذا الجري اللا منقطع للمواءمة بين العلم والدين، نقول: المسلمون واثقون بكتابهم ودينهم، من دون حاجة لخدمات ومغامرات تفسيرية لا خطام لها.