الإصلاح والتغيير

TT

لم ترشح أنباء كثيرة عن اجتماعات القيادة القُطرية في دمشق. ولا نستطيع البناء على ما اشيع من تغييرات على الحزب. ولكن المرء يتوقع ان تكون جذرية، سواء قلت في العدد أم كثرت. وسورية تدرك منذ فترة انها تقف على مفترق في خياراتها الأساسية، وخصوصا السياسة الاقتصادية التي لم تعد قادرة على التعامل مع وقائع الحياة الحديثة في العالم. وهي على وشك الانضمام الى معاهدات واتفاقات اوروبية تتطلب منها هيكلية اقتصادية متغيرة تماما عن سنوات التجربة الاشتراكية الشديدة الانغلاق.

وكانت دمشق حتى الآن تخشى التوسع في التحديث مرة واحدة لكي لا تقع في التجربة السوفياتية، وتفضل اتباع المسار الصيني في الاصلاح. إلا ان كثرة التروي موازية لكثرة التسرع. وقد روى لي الدكتور عبد العزيز حجازي، رئيس وزراء مصر الأسبق وأحد أشهر اقتصادييها، ان الرئيس جمال عبد الناصر قال له قبل ثلاثة أشهر من وفاته، انه يجب اعادة النظر في كل القرارات الاشتراكية وان القطاع العام اثبت فشله ولا بد من العودة الى حرية القطاع الخاص. وقال لوزير ماله آنذاك: «لقد اقتنعت بان النظام برمته لا يمكن ان يستمر على هذا المنوال». ويقول الدكتور حجازي ان «الانفتاح» الذي «اتهم» به السادات فيما بعد، كان حلم عبد الناصر.

واخبرني وزير اعلام عبد الناصر الأستاذ محمد فائق ان الرئيس المصري كان قد اقتنع ايضا بأنه لا يمكن للثورة ان تدوم اذا لم تنقذ نفسها من النظام الأمني الذي كان من أهم دعاته زكريا محيي الدين. وكان عبد الناصر عندما توفي على وشك ان يطلق حرية الاحزاب وان يخفف الرقابة على الصحف ويخفض اسوار السجون ويدفع مصر نحو الاقتصاد الحر وتشجيع المبادرة الفردية والغاء التأمينات الجائرة.

أي ما فعله ميخائيل غورباتشوف فيما بعد، عندما رأى ان الاتحاد السوفياتي على وشك الانفجار، وان الناس لم تعد قادرة على الاحتمال. وفعل كسياو نبغ في الصين الشيء نفسه. لكن الذي حمى البلاد من التفتت هو انها لا تتألف من اعراق وجمهوريات مختلفة مثل السوفيات. وحتى مصر اليوم تتجه الى المزيد من الانفراج او الانفتاح، او ما اصبحنا نسميه في العالم العربي «التحديث»، وهو قديم العالم الصناعي. وربما اعلن الرئيس حسني مبارك قانون الطوارئ بعد العمل فيه كل هذه السنوات. والقضية مطروحة ايضا في سورية. وعاش لبنان 17 سنة حربا دون ان تعلن فيه الطوارئ، ولو ان ما حدث كان اسوأ منها.

بدأت سورية، لكن ببطء، تطبيق بعض الخطوات التي قد تبدو بديهية في بلد آخر، كالبنوك الخاصة. ويقتضي الانتقال الى الاقتصاد الجديد كلفة كبرى كما صرح رئيس الوزراء، لكن لا مفر من ذلك. والمسار طويل جدا في أي حال، بعد كل هذه السنوات. ويجب القول هنا ان النظام الاقتصادي المتشدد قائم قبل وصول البعث الى السلطة ومنذ أيام الاستقلال. فقد ذهب لبنان في اتجاه وذهبت سورية في اتجاه مضاد عندما انفصلت الوحدة النقدية بين البلدين مع خروج الانتداب الفرنسي. ودلت التجربة في البلدين، ايضا قبل وصول البعث، على الفرق في النتائج. لكن تلك كانت مرحلة جماهيرية اختلط فيها الفكر السياسي بالنظام الاقتصادي، كما حدث في مصر. ثمة عالم قد تبدل.