أحدنا قد مات!

TT

أنا الآن في باريس، فما الذي أريد؟

أريد أن أرى ما كنت أراه وانبهر وأدوخ من نشوة بلا خمر، أريد أن أجلس في الهواء البارد وأمامي القهوة الساخنة، من دون أن تختفي البرودة وبدون أن تلسعني السخونة، وليس عندي مانع في أن ينقلب الهواء ساخناً حارقاً، والبن بارداً فأنا في باريس، وكل أخطاء باريس مقبولة وعلى العين والراس، وكنت لا أجد المقاعد صغيرة كما أجدها الآن، بل إنني أشعر أن الجلوس عليها كالجلوس على الخازوق، انها صغيرة كأنها مقلوبة وأنا أجلس على إحدى أرجل هذه المقاعد.

ولما كان توفيق الحكيم والصحافي الكبير أحمد الصاوي محمد وأستاذنا طه حسين ينطقون: كافيه دلابيه.. وفوكيه، ونقرأ عن الفيلسوف الوجودي سارتر في مقهى دي فلور، أو ديماجو، أو حدائق التوبليري أو ميدان بيجال، كان لصدى هذه الكلمات سحر، كأنها تعاويذ إذا نطقناها دخلنا الجنة من أوسع أبوابها، ولا يهم ماذا نأكل ولا ماذا نشرب يكفي أننا في ميادين كونكورد وبيجال وأتوال، تماماً كما يقول المشتغلون بالسحر: شمهورش عطورش اظهر وبان وعليك الأمان، فإذا نحن أبطال في ألف ليلة وليلة، وكل شيء يتحرك حتى الجزر تتحرك، وكل شيء يطير.

ولم يحدث شيء من كل ذلك في هذا الأسبوع، فما الذي تغير؟ ما الذي كان فبان ـ كما يقول العرب ـ كان الكثير واختفى الكثير، ولكن لماذا؟ لأن الكثير منا نحن قد ذهب وبقي القليل، وبهذا القليل نتجه إلى هذا الكثير.

جلست، طلبت، شربت، تمرغت بعيني بين الوجوه يميناً وشمالاً، كأنني أقرأ صفحة واحدة قد قرأتها مائة مرة، ولا حاجة، ولا شيء، يعني ايه؟ الدنيا ماتت، الحروف بلا نقط، النقط بلا حروف الصفحات بيضاء من غير سوء، أو ليست هناك صفحات، وأنني أتوهم أنني أرى وأنني أقرأ وأنني أحاول أن أفهم، وأنني حاولت وفشلت، ورغم ذلك لا أتوقف عن المحاولة، ونظراتي وما سمعت وما قلت هي محاولة يائسة أن يكون لأي شيء أي معنى!

التفت إلى جاري مداعباً: هل ترى ما أرى؟ لم يقل شيئاً، كأنه لا سمعني ولا رآني، جاء الجرسون فقلت له: كمان قهوة، فنظر إلى الفنجان فوجده كما هو، فذهب وأتى بفنجان آخر، ولما رأيت الاثنين اندهشت أنني لم أشرب واندهشت أن الجرسون قد أتى بفنجان آخر، أنا مندهش وهو مندهش!

وأنا أعرف أنني عندما أصاب بهذه الحالة، أو انعدام الحالات، فهناك علاج أكيد، ان أذهب إلى احدى المكتبات، ذهبت وجدت عدداً كبيراً من الكتب عن الفيلسوف الوجودي سارتر، والسبب هو مناسبة مرور مائة سنة على مولده، أعرف معظم هذه الكتب، وأعرف ما سوف يقولون فقد عايشت الفيلسوف عشرات السنين وأعرف، فكأنني لم أر شيئاً، ومددت يدي إلى كتاب ابنة الرئيس ميتران ـ الابنة غير الشرعية واسمها مازارين بنجو ـ قلبت في الكتاب، لم يعجبني أسلوبها، هي كما يقول العرب: تحاول أن تتقعر، تحاول أن تكون خشنة غليظة كأنها رجل فتوة، أسلوب أبيها أرق وأجمل.

وجدت كتاباً عن المطربة المصرية الايطالية داليدا، وكنت أعرفها جيداً، وأعرف عذابها وهوانها على الناس، فالله أعطاها حنجرة جميلة وجسماً أجمل ولكن عقلها لم يكن كذلك، وكانت ككل الموهوبين، كانت وحدها، ولم ينقذوها من نفسها ومن خيبة أملها، وقلبت في الكتاب وقلت: إنني أعرف أكثر من ذلك!

ومددت يدي إلى مذكرات امبراطورة ايران الشاهبانو وعنوانها (حب دائم)، وقلبت وقلت في نفسي كان من الممكن أن يكون حديثي معها بعد موت الشاه، ضمن هذا الكتاب فالذي قالته كان خطيراً جداً، لولا انها طلبت مني ألا أنشر شيئاً، ولم أنشر.

ومددت يدي وسحبتها، ووضعتها في جيبي حتى لا تمتد، وتمنيت لو أنني استطعت أن أدخل جيبي فلا أرى ولا أسمع ولا أتكلم، لقد أحسست أن الدنيا حولي هي القرفانة هي التي زهقت، هي التي سحبت أعماقها ودلالاتها وألوانها، فأصبحت عندي أعضاء لا وظيفة لها، فلا العين ترى ولا الأذن تسمع، ولا اللسان ينطق، لقد صدر حكم بإعدام كل شيء، وسألت: هل أنا الذي مات أو الكون كله؟!