الاستغلال والاستثمار

TT

عاد المفكر البريطاني ريس موغ، رئيس تحرير «التايمس» سابقا، إلى فكرته الرئيسية التي لا ينفك من الدعوة اليها. وكانت المناسبة في هذه المرة انتخاب البابا الجديد. قال انه ينصح البابا، أنى كان الى قراءة آدم سمث وهايك وكل من بشر بالمنافسة الحرة ولبرالية النظام الرأسمالي. في هذه المرة، مضى الى اتهام توني بلير وشيراك وشرودر والبابا وكل رجال الدين بالاشتراكية. لم يذكر السيد المسيح عليه السلام، فهذا ما لا يمكن لمفكر كاثوليكي ان يصرح به. عيسى بن مريم داعية من دعاة الاشتراكية اعوذ بالله! اساس التهمة هو ان كل هؤلاء السادة لم يعبأوا بالمقولة الرأسمالية وهي ان صلاح المجتمع يتوقف على الحرية والمنافسة الحرة من دون تدخل الدولة.

الذهب هو الشيء الآخر الذي يؤمن به ريس موغ، أو على الأقل كان يؤمن به قبل تدهور سعره. كل مشاكل العالم تعود في رأيه الى انصراف الدول عن اعتماد الذهب اساسا للاقتصاد.

إذا كان هذا المفكر الفاضل يتهم البابا بالاشتراكية، فأنا من جانبي اتهم ريس موغ بنفس التهمة. فهو لم يذكر ان تقدم البشرية يقوم في الواقع ليس على الحرية والمنافسة، وانما على الاستغلال والعبودية. فهرم الجيزة الذي نعجب به ونعتبره من روائع حضارة مصر القديمة، لم يكن ممكنا قط لو أن الفرعون خوفو دفع للعمال أجورا عادلة وضمانة اجتماعية وعطلة سنوية. لقد بنيت كل أهرام مصر، بل وقل كل عجائب الدنيا السبع على اكتاف العبيد وأشباه العبيد. كانت تجارة الرق هي خميرة الرأسمال البريطاني واستخدام العبيد كانت خميرة الثروة الأميركية. اعترافا بذلك تنوي مدينة برستل اقامة متحف لتجارة الرق، فكل هذه القصور الزاهية في برستل بنيت من الاتجار بالعبيد. بعد تحرر العبيد انتقل أولو الأمر الى استغلال العمال، ثم استغلال شعوب المستعمرات. لم تقم الحضارة الغربية على الحرية ـ كما يدعون ـ وإنما على العبودية وجاءت الحرية فيما بعد.

يجرنا كل ذلك لموضوع فائض القيمة الذي عول عليه ماركس. لا يدفع صاحب العمل للعامل قيمة عمله الكاملة، بل يعطيه جزءا ضئيلا منها ويحتفظ بالفائض. نحن في الشرق صرفنا الفائض على الترف والجواري، وهم في الغرب استعملوه في مضاعفة الانتاج والثروة. فكل هذه الحضارة الغربية تقوم في الواقع على الاستغلال، اعطاء العامل أقل من قيمة عمله وإعطاء شعوب العالم الثالث أقل من قيمة منتجاتها الزراعية والمعدنية، والغربيون يستعملون هذا الفائض الضخم في تغذية حضارتهم وزيادة انتاجيتهم.

في اللحظة التي يجري فيها تدخل للحد من جني فائض القيمة وإعطاء العامل قيمة عمله الحقيقية، كما حاولت الاشتراكية ينعدم الفائض والتوفير وتنخفض الانتاجية. انه واحد من المقالب الاقتصادية الأليمة. نجد في آخر المطاف أن الحضارة لم تقم على الحرية والعدالة، وانما على العبودية السافرة او المقنعة وعلى الظلم. وكان الأولى بأمثال ريس موغ ان يعترفوا بذلك، بدلا من التشدق بالحرية وفضائل المنافسة. والسؤال: متى يستطيع الانسان ان يهتدي الى صيغة توفق بين توفير الثروة والعدل؟. الجواب يحتاج الى معجزة من أي بابا جديد.