انتبهوا لدرس دبي الأكبر

TT

ما أكثر المفارقات وما أغربها! في الصيف الماضي بلغت الجرأة بدبي أن تسوّق نفسها كمصيف! وحققت نسبة إشغال لفنادقها تكاد تكون كاملة، برغم أن درجة الحرارة كانت تقترب من الـ50 درجة مئوية والرطوبة تقترب من الـ100%.

في الوقت الراهن يتخوّف البعض من أن تنتهي الاستثمارات العقارية إلى فقاعة تنفجر وتترك الحسرة في نفوس المستثمرين. لكن التعمق في تجربة دبي يكشف بسهولة أن احتمال الفقاعة ليس وارداً...

فقطاع السياحة، وهو الذي تتوجه له أكثر المشاريع الجديدة، أثبت نجاحاً منقطع النظير. فبرغم أن المدينة لا تملك طبيعة غنّاء أو مواقع تاريخية متميزة، وحتى مع وجود عناصر طرد: مثل تزايد أسعار الفنادق والسلع، وشدة الازدحام في أغلب أوقات النهار.. برغم هذا كله فالتدفق لا يهدأ: موجة إثر أخرى من البشر، من أقصى آسيا يأتون ليقضوا أحياناً مجرد ساعات يكسرون فيها ملل رحلاتهم الطويلة ليلتقطوا صوراً تذكارية على خور دبي. من روسيا والجمهوريات المتاخمة لها يطيرون ليتسوقوا أو ليستدفئوا بالسباحة في مياه الخليج. من أفريقيا يتجه التجار حال الوصول صوب أسواق البيع بالجملة. من الدول المجاورة يأتي الخليجيون مع أسرهم لقضاء الساعات الطويلة في المجمعات التسوقية الكبيرة. حتى أهل مدن الإمارات الأخرى لا يستطيعون مقاومة سحر هذه المدينة، فيأتون إليها ليشتروا شيئاً أو ليتناولوا وجبة شهية في أحد مطاعمها.

صارت دبي مضرب المثل في تقدم الخدمات، فهناك سرعة خاطفة في تخليص إجراءات الدخول عبر مطارها، وهناك يسر في إنجاز الخدمات الحكومية للجمهور. وأسلوبها الاقتصادي بات يقلّد ويحتذى في داخل الدولة وخارجها. فقد أعلنت مدينة أبو ظبي في الأسبوع الماضي جملة من الخطوات تهدف لإطلاق المشاريع الصناعية والسياحية والعمرانية. ورأس الخيمة انطلقت في الطريق نفسه، فأخذت برفع مستوى بنيتها التحتية، وأعلنت عن مجموعة من المشاريع السياحية والعقارية. وخارج الدولة نجد عدوى اندفاع دبي الاقتصادي تنتقل لقطر والبحرين وعمان، وبدرجة ما للكويت والسعودية.

الغريب في تجربة دبي أن التطوير الكبير الذي تقوده بما يتضمنه من استقطاب لرؤوس الأموال والسياح لا تحتاج له دبي نفسها بشكل ماس. فليس هناك بطالة بين أهلها تسعى عبر سياساتها الاقتصادية لتوفير العمل لهم. وهي تملك إنتاجاً نفطياً، وإن ليس كبيراً، إلا أنه يكفي حاجاتها التنموية. لكن هدف دبي ليس سد الحاجات الضرورية، بل سعياً وراء المزيد من الثراء...

درس دبي الأكبر موجه لأغلب الدول العربية التي تهدر الفرص وتضيع الوقت عن بناء اقتصاديات حديثة توفر فرص عمل كافية لمواطنيها. دبي لا تطبق نظريات معقدة في برنامجها الإنمائي. هي تتميز بأنه لا يوجد لديها بيروقراطيون يفرضون على المستثمر أتاواتهم، ولا رجال أمن يبتزون السياح والتجار. الأجنبي في دبي يشعر أنه أمام المحاكم متساو مع ابن البلد، حتى لو كان الأخير ابن أكبر التجار أو ابن الحاكم حتى.

وسياسات دبي الاقتصادية لو تم تمثلها تحقق مجموعة من الأهداف بضربة واحدة:

فهي أولاً تحرك دورة اقتصاد هائلة توفر فرص عمل كبيرة وتحل مشكلات البطالة المزمنة في معظم الاقتصاديات العربية. وهذا من شأنه إطفاء التذمر والسخط الشعبي المحتقن في أكثر من بلد.

وهي ثانيا تنشط النظام الائتماني، فمن الأسرار التي يجهلها الكثيرون أن دبي تجتذب رؤوس أموال أجنبية باستمرار. فمنذ السبعينات كانت المدينة وجهة لكل من ضاقت به فرص الاستثمار في بلده من رجال الأعمال العرب الذين اضطروا للهجرة لأسباب سياسية، أو بسبب الحروب، أو لضعف المناخ الاستثماري في بلدانهم. وهي كانت وجهة مغرية للسبب نفسه لرجال الأعمال الإيرانيين وأولئك القادمين من شبه القارة الهندية.

وهذا الأمر هو الذي يجعل مخاوف تحول دبي لفقاعة مستبعداً. فأعمال البناء ومشاريع التمليك تقوم أساسا على تحويلات مالية آتية من الخارج، وليست ناشئة من ائتمان مصرفي يمكن أن يسبب مشكلة على غرار المشكلة العقارية اليابانية التي طال أمدها. وتجربة دبي، على عكس الوضع الياباني، تضيف الاحتياطات والسيولة للنظام البنكي المحلي أكثر مما تأخذ منه.

وهناك درس عظيم تقدمه دبي للدول النفطية على وجه الخصوص. فقد ارتكبت الدول النفطية ذات الفوائض المالية خطأً شنيعاً قبل 30 عاماً حين صدقت مزاعم بعض الاقتصاديين بأنه لا توجد فرص استثمارية محلية وحولت فوائضها المالية للاستثمار في أسواق السندات والأسهم الغربية.

لكن دبي أثبتت اليوم تهافت هذه السياسة بقيامها بالاستثمار في مشاريع ضخمة وناجحة (طيران الإمارات، شركة إعمار، والمدن الاستثمارية المتخصصة: الإعلام، الإنترنت، الطبية.. إلخ). واليوم أصبح العديد من صنّاع القرار في بعض دول وامارات الخليج يدرك كيف أدت السياسات القديمة إلى خلل تنموي كبير حوّل المواطنين عن مواقع العمل ليكونوا مجرد موظفين حكوميين يعتاشون على ريع النفط. أما دبي فقد سبقتهم في خلق اقتصاد نمور آسيوي حقيقي لا يعتمد على النفط إلا بأقل صورة (قبل عدّة أشهر ذكر الرئيس كلينتون في محاضرة له أن نسبة الاعتماد على النفط تبلغ 8%، لكن ولي عهد دبي صحح النسبة إلى 7%). ويمكن رصد حجم الإنجاز من خلال إعلان دبي هذا الأسبوع عن ميزانيتها السنوية التي بلغت 14 مليار دولار، فيما بلغت إيراداتها أكثر من 15 مليار دولار، وهي ميزانية تبلغ أكثر من ضعف ميزانية دولة الإمارات الاتحادية.

ولكن، ورغم حديثنا هذا، فإن الموضوعية تملي علينا رصد أخطاء مسيرة دبي التنموية، لكنها كلها «هنات هينات» بإزاء تحقيق معجزة نتمنى تكرارها حتى مع أخطائها في مدننا العربية المصابة بنعاس تاريخي، يضيع العاطلون عن العمل حياتهم فيها بالجلوس في المقاهي، ولمن لا يملك ثمن القهوة بالتسكّع في الطرقات وبمشاهدة فترينات المحلات والحسرة تقتلهم.