الجزائريون بين النسيان الصعب والعفو الضروري

TT

وأنت تتجول في شوارع العاصمة الجزائرية، ليس من الصعب عليك في شيء أن تلتقط تلك الرغبة الجامحة الحزينة لتعويض ما فات، والتظاهر بقدر الطاقة النفسية بالنسيان. وستدرك أيضا وأنت تتجاذب أطراف الحديث وتقلب الأوجاع والذكريات النازفة، بأنك أمام شعب تمرغ في الألم والمعاناة حتى ضاق ذرعا، وبات مستعدا لصفحة جديدة، رغم ما تتطلبه تلك الصفحة من تضحيات ومن قدرة فوق احتمال البشر على النسيان والتسامح والمصالحة.

والقاسم المشترك بين كل من تحدثت معهم من المثقفين والشعراء هو أنهم يعيشون صراعا بين صوت العقل وبين نيران الألم المتأججة في الداخل. صراع بين ضرورة المصالحة الوطنية كشرط لبناء الجزائر وللحياة في الجزائر بعيدا عن الدم والخطف والخوف والتهديدات، وبين صعوبة تجاوز أحزان عميقة، تطلب الثأر والانتقام ممن قتلوا الآباء والأمهات أمام أعين أطفالهن، وممن بددوا بالاغتيال ثروة هائلة من الصحفيين والمبدعين الكبار.

ومع ذلك فإنه بعد كل استطراد طويل لتجربة قاسية، يتوج الكلام باقتناع أكثر منه رضا بأنه لا بد من المصالحة للخروج من النفق، ولمنع تكرار تجربة العشرية السوداء. ولعل القاسم المشترك الثاني، هو أن سؤالا يكاد يكون نفسه ينطق به أكثر من لسان: لماذا حدث ما حدث، ولفائدة من؟ سؤال يزيد في عمق المعاناة وتشعبها، ذلك أن فهم دواعي الجريمة كثيرا ما يقلل من الصدمة!

ورغم أن كابوس العشرية السوداء بدأ يتجدد منذ سنوات، فإن إدراك مسألة ذهابها إلى غير رجعة لم يكتمل نهائيا. فإلى الآن لا يزال الجزائري يستشعر بقوة معنى أن تكون الشوارع مضيئة بوجوه سكانها. وإلى الآن أيضا يعبر الشعراء وأحباء الأدب عن ضخامة سعادتهم، وهم داخل قاعة «ابن خلدون» للثقافة إلى الساعة التاسعة والعاشرة ليلا. ويردفون سعادتهم تلك، بحزن على سنوات انطفأت فيها أضواء المراكز الثقافية وانقطع فيها الوصل مع المبدعين العرب.

لذلك فإن الرغبة على الانفتاح تجتاح الجزائريين بقوة المعنى والتجربة، لا بضغط المقولات السياسية والاستراتيجيات الفوقية.

وتعج مراكز الإنترنت في الجزائر بالشباب وكي تجد «كمبيوتر» على ذمتك، لا بد من الانتظار كثيرا.

ففي مقابل صعوبة نسيان سنوات حدث فيها أبشع مما وقع في عهد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، نجد استعدادا جارفا لتضميد جراح الجزائريين، ولتعويض ما فات، خاصة وأن الوعي بعشرية الموت قد طال الجميع الذين يدركون جيدا تبعاتها وتأثيرها في جعل عجلة الحياة والتنمية، تقف عشر سنوات، ليست بالقليلة في عمر الشعوب.

وأظن أن الرئيس بوتفليقة كان صائبا في جعل عملية تجديد مضمون المشروعية السياسية للحكم في الجزائر، تستند إلى المصالحة الوطنية كاستكمال لقانون الوئام المدني (1999) ورفع شعار العفو الشامل في الخماسية الثانية للحكم. فلا شيء آخر من مضامين المشروعية السياسية كان يمكن أن يكون مقنعا ومشبعا لتوقعات الشعب الجزائري البعيدة نسبيا.

فالمصالحة في السياق الجزائري ذات معنى ومغزى وضرورات، وليست ترفا سياسيا يهدف إلى الدمغجة. وإن كانت تفاصيل قانون العفو الشامل، لم تكشف بعد، فإن كلمة «العفو» ذاتها قد تحولت إلى موضوع لسوق المزايدات السياسية، والخلافات حول العفو والاعتراضات كثيرة. وكل يريد عفوا على مقاس معاناته وجراحه. والذي زاد في صعوبة التحكم في هذا الجدل المبدئي حول العفو الشامل وتدابيره وتخفيف العقوبات، هو ملف المفقودين الذي يعاني من لخبطة رقمية كبيرة، إذ تتحدث الدولة عن 6000 مفقود، وأطراف أخرى تتحدث عن عشرة آلاف وأحيانا عن عشرين ألف مفقود.

لذلك فإن عودة 6000 مسلح إلى المجتمع، لم تفعل أكثر من كسر بعض الحواجز النفسية. ومن الواضح أن النخبة السياسية الحاكمة في الجزائر، توازي بين خطاب المصالحة الوطنية وبين الشروع في عملية إشباع بعض التوقعات. وهكذا فهي بشكل غير مباشر تهيئ أرضية اجتماعية اقتصادية للقبول بالعفو الشامل، وجعله ينتقل بأسرع مما هو عليه الآن من مرحلة المزايدات إلى الواقع المعيش.

ومن مظاهر الشروع في إشباع بعض توقعات الشعب الجزائري، خوض مغامرة الانفتاح في أكثر من صعيد: داخليا، سيعلن قبل فصل الصيف قانونا جديدا للإعلام يفتح مجال الاستثمار في القطاع السمعي البصري. وعلى صعيد مغاربي، يندرج قرار إلغاء التأشيرة للمغربيين لدخول أراضي الجزائر في سياق الانفتاح، الذي ينتظر أن تكون الخطوة القادمة فتح الحدود بين البلدين الجارين. وفي البعد الدولي، تجري المساعي حثيثة لتفعيل اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانضمام المرتقب للمنظمة العالمية للتجارة.

ومن جهة أخرى، دخلت الدولة مرحلة من التدارك غير المباشر المتمثل في اتهامها في أنه كان لها ضلع في انفلات الوضع الأمني في الجزائر. والتدارك المقصود يتمثل في شن حملة على الفساد تطال مافيا العقارات وإطلاق مشروع «مليون سكن» وأيضا حملة تطهير في سلك العدالة، إذ تم فصل ثمانية قضاة وإنذار 12 آخرين في الأيام الأخيرة. لذلك ربما يصح الاستنتاج بأن الهوة بين الدولة والشعب في تقلص، وأن بعض مؤشرات حقيقية ستسهم في استعادة المصداقية، التي لا بد منها للمضي قدما في مشروع العفو الشامل بوصفه آخر ورقة للخروج النهائي من الأزمة الدموية. وقد قرأت في صحف الجزائر خبر زيارة مرتقبة سيقوم بها نيلسون مانديلا إلى الجزائر، حيث سيقدم فيها للشعب الجزائري خطابا حول العفو كضرورة لا بد منها.

وهو ما يفيد أن النخبة الحاكمة في الجزائر تجتهد من خلال استثمار الجاذبية الشعبية لرموز ذات مصداقية وخبرة، وتتحرك على أكثر من صعيد وتجرب كل الطرق، التي تؤدي بالاقتناع الشامل بالعفو الشامل.

إن قانون العفو الشامل الذي سينكشف مضمونه قريبا، وإن كانت تعترضه مشاكل تتعلق بصعوبة توفير الأرضية الصالحة لتحققه، فإنه يشكل في حد ذاته الأرضية التي تعوض الأرضية الصعبة التحقق. فالعفو مفهوم مكتمل الرؤية والمعنى، وينطوي على استعداد لمحو ما سبق والانطلاق من نقطة الصفر. لذلك فإن القيام بندوة وطنية دولية حول مفهوم العفو ودلالاته وتجارب العفو التي عرضها التاريخ، بالإمكان أن تساعد الشعب الجزائري على مزيد الإحاطة بالمفهوم، كي يتم الوعي بأدق مستحقاته وأيضا قطع الطريق أمام الرافضين الملثمين الذين لا ندري ما إذا كانوا يعلمون حقا بأن أي رفض للعفو وللمصالحة هو خلق لبؤرة توتر جديدة لا أحد يستطيع أن يتنبأ بحدودها الدرامية والتراجيدية.

إن للجزائر اليوم أولويات من الضروري مواجهتها بالتنمية والمعالجة، والتردد بين زمنين الماضي والمستقبل سيقتل الحاضر الجزائري وسيطيل غيبوبته خارج الفعل.

فالمطلوب الآن أكثر من الانتقام والتأثر. المطلوب هو النهوض بالجزائر والتحليق بها إلى الآفاق التي تليق بشعبها وبثرواتها وطاقاتها.

فأيهما أهم رفض العفو على القتلة والمجرمين، أم التفكير في الإحصائيات المفجعة لوزارة الصحة في الجزائر والتي تقول بأنه تم تسجيل 30 ألف حالة وفاة للمواليد سنويا مع تسجيل 700 حالة وفاة للنساء أثناء الولادة؟ أيهما أكثر أهمية وجدوى، طلب القصاص من الذين استباحوا الدماء والأرواح أم معالجة الإشكاليات التي طرحها تقرير البنك العالمي بخصوص محيط الأعمال والاستثمار لسنة 2005، والتي يشير فيها إلى اختلال في المنظمة الاقتصادية والإدارية والقضائية وإلى سوء الخدمات وممارسة الرشوة وسيطرة الاقتصاد الموازي بنسبة 40%. أظن أن الشعب الذي خسر أمسه القريب لا يستطيع أن يراهن إلا على الغد وعلى إرادته وعلى مستقبل لأطفال الحاضر، تقدّس فيها قطرة دم الإنسان الجزائري.

* كاتبة تونسية

[email protected]