دولة الثقب الأسود

TT

صدر في الأسبوع الأول من شهر أبريل الحالي تقرير التنمية الإنسانية الثالث بعنوان «نحو الحرية في الوطن العربي»، وتتيح قراءته معاينة نتائج جهد بحثي جماعي في تشخيص أوضاع الحريات وأنظمة الحكم في البلدان العربية.

توحي كلمة «نحو» في عنوانه بالوجهة والاتجاه والطريق، كما توحي بالقواعد المفترض أنها تسعف بتمثل مطلب الحرية في الواقع العربي، حيث يقدم التقرير ما يمكن اعتباره معطيات واصفة ومفسرة لآليات خنق ومحاصرة الحريات في العالم العربي مع محاولة لرسم بدائل لما ذكرنا.

وإذا كانت مادة التقرير المتضمنة في أقسامه وفصوله تعكس جوانب عديدة من واقع استبداد الأنظمة السياسية في كثير من الأقطار العربية، فإن نتائجه المعلنة والضمنية تقدم صورة من صور انخراط مجموعة بحثية في فهم مخاضات الصراع السياسي الدائرة اليوم في المحيط العربي.

يقترب التقرير من واقع الحرية وأنماط الحكم السائدة في البلدان العربية بوسائل متعددة، ويساعده في عملية تملك أسئلة التقرير ومعطياته تنوع الحساسيات الثقافية والسياسية التي رسمت الملامح الكبرى لهندسته وخياراته. وهو لا يتردد في توظيف مختلف الآليات المنهجية التي تتيح لنمطه في الكتابة إمكانية ممارسة التأثير المرغوب فيه، لهذا تحضر في النص المعطيات الإحصائية الراصدة لمؤشرات محددة، كما تحضر التحليلات التاريخية المعاينة لشبكة تطور المفاهيم والمرجعيات، إضافة إلى التحليلات الوضعية الراصدة لتناقضات الواقع، وذلك استناداً إلى عمليات المسح التي تقدم مواقف وتطلعات عينة مهمة منتمية إلى خمسة أقطار عربية استجابت كما يوضح ذلك التقرير لطلب إنجاز عملية المسح الموظفة في البحث وهي: المغرب، الجزائر، فلسطين، الأردن ولبنان.

ولا يكتفي التقرير بالوسائل التي ذكرنا، بل يعمل على رسم سيناريوهات مساعدة على إدراك ممكنات المسار والتحول في واقع الحرية وأنظمة الحكم في العالم العربي. كما أنه في بعض مفاصله ومقاطعه مفردات ومفاهيم ذات ايحاءات متعددة ومفتوحة بهدف الإمساك بقضايا مركبة ومعقدة.

يوظف البحث الوسائل المنهجية التي ذكرنا متوخياً بلوغ أمرين اثنين: تشخيص العوائق التي تحول دون توسيع مجال الحريات في العالم العربي، وبناء جملة من التصورات المساعدة على تخطي المأزق العربي الراهن، مأزق ما يطلق عليه مشهد الخراب القادم.

يستوعب التقرير جوانب مهمة من صور الصراع السياسي الدائر في قلب البلدان العربية، وهو يقترب من سؤال الإصلاح السياسي من الداخل من دون إغفال الخارج، محاولاً بناء المعطيات التي تبرر وتبرز مشروعية الاصلاح السياسي، بل حتميته في المنطقة العربية. لهذا يتحول النص في بعض الأحيان إلى شهادة قوية في متطلبات دولة الحق والحرية والقانون والمؤسسات المطلوبة اليوم بكثير من الالحاح في مختلف الأقطار العربية.

يعي معدو التقرير صعوبة التعميم في موضوع أنماط الحكم وأوضاع الحرية في العالم العربي، ولهذا شكل مفهوم دولة الثقب الأسود القائم على استعارة فلكية مخرجاً لتقديم صورة النخب الحاكمة في كثير من الأقطار العربية.

يعد الثقب الأسود في منظومة فلكية بمثابة قطب جذب تدور كل معطيات المجال في فلكه، ولا تستطيع التخلص من اساره، لكن ايحاءات المفهوم في سياق التقرير تتجاوز المعطى الفكي المعلن للتسمية نحو توصيف الفوضى والفراغ والتربص والظلام، حيث تنطفئ النجوم وتنتشر الفتن ونقترب من دروب الخراب..

إن الثقب الأسود علامة دالة على تقييد الحريات وتعميم الاستبداد وإشاعة الفساد، وكلها أمارات دالة على الفوضى الكارثية الحاصلة في البلدان العربية في مطلع الألفية الثالثة، حيث ازدادت مساحة الحرية تقلصاً، وانعدمت آليات التداول على السلطة وظل الثقب الأسود بمثابة بؤرة مانعة لكل ما يساعد على التدبير الرشيد لقضايا التنمية والحكم في مجتمعاتنا.

يترتب عن الممارسة القهرية لدولة الثقب الاسود استمرار العجز التنموي، كما يترتب عنها تعريض الأقطار العربية للضغوط الخارجية، وهو الأمر الذي يشخصه التقرير في استمرار الاحتلال الاسرائيلي للأرض الفلسطينية، والاحتلال الأمريكي للعراق، إضافة إلى تصاعد وتائر الارهاب حيث يصبح مطلب بلوغ التنمية الانسانية العربية بعيد المنال.

تمارس دولة الثقب الأسود التسلطية على المجتمعات العربية كثيراً من صور القهر والطغيان، ورغم تنوع تجارب الأنظمة والسياسات القائمة في العالم العربي، فإنه آليات المحافظة على السلطة واستثمار رأسمالها الرمزي يظل حكراً على عائلات ونخب وطوائف وطبقات محددة. وتعين مظاهر التراجع في معدلات التنمية، وفي مساحة الحرية المتاحة في العالم العربي واقع التردي الذي بلغته مجتمعاتنا، وهو الأمر الذي يضاعف ازدياد فرص التناحر والاقتتال الداخلي حيث نقف اليوم في كثير من الساحات العربية على عتبة الخراب.

يفسر التقرير مظاهر الإخفاق السياسي، وغياب أنظمة الحكم الديمقراطي في كثير من الأقطار العربية مبرزاً سيادة شرعيات سياسية بعيدة كل البعد عن مرجعية الحكم الديمقراطي وشرعيته التعاقدية والقانونية.

حدد التقرير الشرعيات السياسية المهيمنة على الدولة التسلطية في العالم العربي في ثلاث:

الشرعية التقليدية، والشرعية الثورية، أما الشرعية الثالثة فيشخصها التقرير فيما يطلق عليه الشرعية الأبوية الحافظة لولاءات النسب ومبدأ الوصاية.

وإذا كانت العناصر السابقة تحدد جوانب من صور الشرعية السياسية كما قامت في العالم العربي خلال عقود القرن الماضي، فإن التقرير يتحدث أيضاً عن شرعية سياسية جديدة أصبحت تلجأ إليها الأنظمة السائدة في البلدان العربية اليوم، يتعلق الأمر بما يطلق عليه «شرعية الابتزاز»، حيث تقوم دولة الثقب الأسود بتبرير استمرارها في السلطة بحكم أنه أهون الشرور، حيث تغيب إمكانية وجود البدائل القادرة على تجاوز المأزق الراهن، وحيث يشكل الشر الأصولي المستطير، الممكن الوحيد وسط الفوضى المستفحلة والفتنة القائمة، وهو الأمر الذي يعني بلغة الآداب السلطانية العتيقة «حاكم غشوم ولا فتنة تدوم».

ينتقد التقرير شرعية الابتزاز ويرسم بعض المشاهد المساعدة على إنجاز التجاوز المطلوب، إنه لا يرسم طوبى متعالية، ولا يخوض في مجال تعيين ملامح النهوض العربي، بل يكتفي برسم جملة من العلامات الدالة في طريق صعب ومحفوف بالمخاطر.