.. ومر نصف قرن على حركة عدم الانحياز

TT

قليل من الناس تذكروه، ولكن هذا الشهر يوافق الذكرى مرور خمسين سنة على عقد مؤتمر باندونغ (18 الي 25 مارس 1955) وميلاد حركة عدم الانحياز. وفي البداية ارادت الحكومة الاندونيسية الاحتفال بالذكرى بإقامة العديد من الاحتفالات في جزيرة جافا حيث عقد المؤتمر. ولكن جرى الغاء الخطة في اطار خطة لاجراء تخفيضات في الميزانية، اقرها الرئيس الاندونيسي سوسيلو بامبانغ يودهويونو.

وبالرغم من ان نصف قرن ليس بالفترة الكافية لتقييم كل نتائج حدث تاريخي اساسي، فإنه يمنحنا الفرصة لتقييم مؤقت. فمن ناحية كونها مبادرة دبلوماسية، فقد حقق مؤتمر باندونغ نجاحا رائعا. وجاءت الفكرة اساسا من حكومة سيلان في عام 1954 بدعم من الحكومة الفلبينية.

وفي البداية كانت الحكومتان تفكران في مؤتمر للدول الآسيوية. غير ان الرئيس الاندونيسي انذاك احمد سوكارنو، الذي عرض استضافة المؤتمر، وسع نطاق الفكرة فيما وراء آسيا، وهي خطوة ستقوي موقفه مع وجود الدول العربية والاسلامية من الشرق الأوسط وشمال افريقيا.

وقد ادت هذه الفكرة الى تداعيات كثيرة...

فقد وافق رئيس وزراء بورما يو نو ونظيره الصيني شوان لاي على الحضور، ثم وافق هوشي منه رئيس وزراء فيتنام الشمالية. وبعدها اعلنت اليابان مشاركتها. ومع عقد المؤتمر كان قد نجح في جذب ثلاثة نجوم: الرئيس المصري جمال عبد الناصر وكوامي نكروما، رئيس وزراء ساحل الذهب (غانا فيما بعد) وادم كلايتون باول، وهو عضو اسود في الكونغرس الاميركي من هارلم في نيويورك.

وعقد المؤتمر بمشاركة 29 دولة ومراقب.

وبعدها بـ6 سنوات، ولدت حركة عدم الانحياز بعضوية 77 دولة، ووصلت الى في قمتها الى 120 دولة بنهاية القرن العشرين. وفي الواقع فقد كان باندونغ نتاجا لمؤتمر الشعوب المقهورة الذي عقد في بروكسل عام 1927 بهدف تطبيق نظرية بحق تقرير المصير للدول المستعمَرة في جميع انحاء العالم.

غير ان باندونغ، على العكس، من مؤتمر بروكسل الذي مثل حركة شعبية، كان تجمعا لدول غير ديموقراطية خاضعة لسيطرة انظمة اتوقراطية.

واعادة قراءة الخطابات في المؤتمر تظهر ان المشاركين كانوا، في الواقع، يتحدثون للمؤتمر بدلا من التحدث لبعضهم البعض.

فقد تحدثوا عن تبني شعور جديد بالوحدة الانسانية والتضامن ولكنهم طرحوا خطوط فصل جديدة. فقد طرح شوان لاي فكرة تحالف آسيوي تسيطر عليه الصين الشيوعية.

وكان لعبد الناصر حلمه بالقومية العربية التي ستجعل مصر قائدة لامبراطورية تمتد من المحيط الهندي الى الاطلنطي.

وروج نكروما لاجندة القومية الافريقية.

وكان لكلايتون عضو الكونغرس الذي لم يرأس أي حكومة، احلامه الخاصة: توحيد الشعوب الملونة تحت علم واحد. وبالرغم من ان المؤتمر ضم شعوبا من مختلف الالوان، فإن كلايتون اصر على النظر للجميع كسود، وبالتالي يرثون عاصمة المعاناة الناتجة عن قرون من العبودية والقهر. وقد فشلت كل هذه الافكار بمرور الوقت. وقد تجاهلت فكرة شوان لاي القائلة بأن الجغرافيا يمكنها توحيد امم متنوعة مثل اليابان وافغانستان، مرورا بالصين والهند، حقائق التاريخ والدين والسياسة. وركزت القومية العربية لعبد الناصر على اللغة. واعتمد مبدأ الاحادية لنكروما على الجغرافيا. بينما شاهد كلايتون، لون الجلد كعامل توحيد، وبالتالي اكد تحيز العنصرية. وكان يقول «حائط من الالوان يفصلنا من الظالم الابيض».

ولأن باندونغ كان تجمعا للاتوقراطيين، بصفة خاصة، فإنه اصبح عرضا للارادة والسياسات. ويصف بطرس بطرس غالي المؤتمر بأنه «سوق للاوهام». واعتقد المشاركون ان طلب الشيء يكفي لتحويله للحقيقة. ولكنهم سيشعرون بالاحباط.

ففي خطابه تحدث سوكارنو عن احتمالات حرب نووية بين الغرب والكتلة السوفياتية، واشار الى عالم من الخوف.

وركز نهرو ايضا على نظرية الحرب بين الكتلتين، بينما اطلق فكرته بعدم الانحياز، وهي كتلة تقدم منطقة سلام في العالم.

وفي العقود التي تلت ذلك، اصبحت دول عدم الانحياز مسؤولة عن معظم الحروب في العالم. فبعد شهور من مؤتمر باندونغ غزت الهند باكستان على امل ضم اجزء من منطقة ران ايكوش. وهاجمت الصين الهند واستولت علي اجزاء كبيرة من اراضيها، بما في ذلك لاداخ عام 1960 . وفي عام 1961 كان دور الهند لغزو جيب جاوا البرتغالي. واشتبكت الهند بمعركة حدودية مع بورما التي اصبح تعرف فيما بعد باسم ميانمار، بينما قاد عبد الناصر العالم العربي الى حرب كارثية في عام 1967. وفي العقود الثلاثة الماضية شاركت دول عدم الانحياز في 67 حربا، بما في ذلك الحرب الايرانية العراقية، التي دامت 8 سنوات، وهي اكثر الحروب من حيث عدد الضحايا والدمار منذ 1945. وفي السبعينات تعرضت باكستان، الدولة المضيفة، الى حرب اهلية راح ضحيتها نصف مليون شخص على الاقل.

غير ان المجابهة النووية المتوقعة بين الكتلتين الغربية والسوفييتية لم تتجسد في الواقع. وبدلا من ذلك خاض الغرب والاتحاد السوفييتي حروبا بالنيابة مستخدمين أعضاء من الحركة المسماة عدم الانحياز كبدائل.

وبمرور الزمن أصبحت حركة عدم الانحياز مسرحا سعى فيه مختلف المستبدين خلف معيار للشرعية التي لا يستحقونها.

وكان أحد الحكام المستبدين الذين انضموا الى الحركة المارشال جوزيف تيتو الذي كان يترأس امبراطورية شيوعية صغيرة في يوغسلافيا. ومن بين الآخرين رئيس غينيا احمد سيكوتوري والرئيس الكوبي فيدل كاسترو والزعيم الليبي معمر القذافي والرئيس الجزائري هواري بومدين، وأخيرا الرئيس العراقي صدام حسين والرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسيفتش.

وكان باندونغ أيضا موضعا ولدت فيه صناعة آيديولوجيا، سرعان ما تبناها مثقفون فرنسيون، وكان لها أن تخلق طائفة من التعاليم التي عرفت باسم العالمثالثية. وابتكر جان بول سارتر الذي توافقت الذكرى المئوية لميلاده مع اليوبيل الذهبي لمؤتمر باندونغ مبدأ «التحرر من الحدود»، والذي رأى فلاحي العالم الثالث ينتفضون لتحرير بلدانهم ثم يتوجهون لتحقيق الحرية في الغرب أيضا. ووعد سارتر في عام 1961 بأن انتفاضة الفلاحين العالمية ستكون اشتراكية وأممية. ولكن ما لم يعرفه الفيلسوف الفرنسي هو أن طبقة الفلاحين ستختفي في كثير من البلدان بفضل التقدم التكنولوجي.

ونصح سارتر العالم الثالث بالابتعاد عن أفكار مثل الديمقراطية والتعددية والانتخابات ونظر الى الانتخابات باعتبارها «اغتصابا للمجتمع» من جانب مجموعة صغيرة من السياسيين، وفي سنوات لاحقة، وعندما سحرته الثورة الثقافية البروليتارية العظمى في الصين دافع عن الانتفاضة الدائمة التي لن تسمح باقامة حكومة مستقرة ناهيكم عن تنمية اقتصادية.

وتبنى فرانز فانون، الفيلسوف الفرنسي الأسود، الذي تحول لاحقا الى الاسلام، مفهوم «الزنجية»، الذي اسسه ايميه سيزير وليوبولد سيدار سنغور. وأكد ان كل امرئ غير اسود، جزئيا على الأقل، لديه «هتلر مخفي في داخله». وما لم يعرفه فانون هو ان معظم العرب، وبينهم السود الجزائريون، الذين اعتبرهم مواطنيه الجدد، لم يعتبروا أنفسهم من السود، ويمكن أن يكونوا عنصريين، كما هو حال أي أوروبي. فما الذي تبقى من باندونغ بعد 50 عاما؟

اختفت التكتلات، ولم يعد بوسع الحكام المستبدين في العالم الثالث أن يمارسوا لعبة وضع الغرب الرأسمالي ضد الشرق الشيوعي ليحتفظوا بقبضتهم على السلطة. فقد انتصرت الرأسمالية في كل مكان تقريبا، بما في ذلك الدول الشيوعية المتبقية مثل الصين وفيتنام. ويبدو تمرد الفلاحين العالمي الذي تبناه سارتر مثل نكتة في مقهى باريسي اكثر منه فلسفة جادة. وفي كل مكان يريد الناس التعددية والانتخابات والرخاء، وكل الأشياء التي يعتبرها العالم الثالث اختلاقات منحطة وبرجوازية وامبريالية.