لبنان: فصل آخر من «الديمقراطية الشرق أوسطية»؟

TT

طلب مجلس الأمن من الأمين العام للأمم المتحدة، قبل ستة أشهر، أن يرفع تقريراً حول التقدم المحرز في تطبيق القرار 1559 الذي تبناه المجلس في سبتمبر الماضي، الا أن أجواء من الريبة والشك أحاطت بموعد نشر التقرير، الذي كان محدداً يوم الثلاثاء الماضي، والذي يتناول تفاصيل استمرار انسحاب القوات السورية من لبنان. بيد أن كوفي أنان أعلن، في اليوم التالي، ان التقرير «غير جاهز»، وانه ينتظر ليرى «التطورات في المنطقة»، لا سيما في ما يتعلق بلبنان وسوريا والانسحاب. وأضاف أنه سيصدر التقرير يوم الثلاثاء المقبل، أي بعد أسبوع من موعده الأصلي، من دون أن يسهب في تحديد التطور الذي دفعه الى تأجيل تقريره للمجلس. فهناك، بالتأكيد، الانسحاب الكامل المتوقع للقوات العسكرية وأجهزة المخابرات السورية، التي وعد باستكمالها الرئيس السوري، بشار الأسد، قبل نهاية الشهر الحالي. لذا، قد يُعزى قرار أنان ارجاء التقرير أسبوعاً كاملاً الى الأمل في تضمينه تأكيداً على انتهاء عملية الانسحاب السوري. كما قد يكون أنان قد تريّث في نشر التقرير بانتظار تشكيل حكومة انتقالية في لبنان، التي ستكون مهمتها الأساسية اجراء انتخابات نيابية بحلول شهر مايو المقبل.

واللافت هو السرية المحيطة بالملف اللبناني ـ السوري في الأمم المتحدة الذي يتولاه فعلياً شخص واحد هو مبعوث الأمين العام الخاص المعني بتطبيق القرار 1559، تيري رود لارسن. فهو يقوم بعمله بتكتم، كما تظهره لقاءاته البعيدة عن الأضواء مع وزيرة الخارجية الأميركية وغيرها من المسؤولين الأميركيين، وهو ما حدث قبيل وبعيد رحلته الأخيرة الى الشرق الأوسط في بداية الشهر الجاري.

وبعد المواقف المتشددة التي اتخذتها باريس وواشنطن ازاء سوريا، أصبح من الواضح أن الفرنسيين والأميركيين يريدون أن تضطلع الأمم المتحدة بدور قيادي لتنفيذ مشاريعهما. والواقع أن مسؤولين أميركيين وفرنسيين طلبوا من لارسن أن يضع استراتيجية للأمم المتحدة في لبنان، تبعد عنهما أية اتهامات بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، اذ أن المبعوث الخاص للأمين العام، تحت غطاء الأمم المتحدة، لا يبدو مقيداً بمثل هذه الاعتبارات.

أما الآن وقد أصبح الانسحاب السوري شبه مكتمل، فيبدو أن اعادة رسم الخريطة السياسية في لبنان هو الهدف الرئيسي للادارة الأميركية والحكومة الفرنسية، وبات لارسن يعتبر أن المهمة التي أوكلها اليه الأمين العام تشمل الانتخابات. ولكن المشكلة في ذلك هي أن القرار 1559 لا يشير الى «الانتخابات اللبنانية المقبلة» والى أهمية أن تكون «حرة ونزيهة حسب القوانين اللبنانية الدستورية التي يتم وضعها دون تدخل أو تأثير خارجي» الاّ في ديباجته وليس في فقراته الفاعلة. فالقرار لا يمنح الأمم المتحدة أي دور في الانتخابات، ومع ذلك، فإن قسم الدعم الانتخابي بالمنظمة الدولية أرسل الى بيروت خبيراً انتخابياً واحداً على الأقل نصح لارسن بشأن «مسائل انتخابية» وقام بعقد اجتماعات مع «جهات لبنانية سياسية فاعلة». ويُشار الى أن المنظمة الدولية لم تعترف بصورة رسمية حتى الآن بارسال أي خبير انتخابي الى لبنان. وقد يكون السبب بسيطا، اذ أن ارسال فريق انتخابي الى أية دولة، لا يتم الا بطلب من مجلس الأمن أو الجمعية العامة، أو بناء على طلب رسمي من الحكومة المعنية. وحتى الآن، لم يقدم أي من هذه الجهات طلباً بهذا الخصوص.

والواضح أن الوقت المتبقي للانتخابات النيابية التي يريد الجميع اجراءها في حينها، لا يترك مجالاً أمام أي مشاركة فاعلة للأمم المتحدة، وفقاً لما تقتضيه الاجراءات العملية المتبعة في قسم الدعم الانتخابي. ولكن تسييس الملف اللبناني والرغبة الشديدة لدى القوى الدولية الرئيسية في ضمان انتخابات «حرة وشفافة» قد يضطر الأمم المتحدة الى التدخل في هذه العملية المهمة.

وفي حين أن أي دعم انتخابي تقدمه الأمم المتحدة لاجراء انتخابات شفافة وذات مصداقية يستحق الترحيب، الا أن الأزمة الحالية التي يمر بها قسم الدعم الانتخابي تلقي بظلال من الشك على قدرتها على اسداء النصائح الانتخابية للمؤسسة السياسية اللبنانية. وطالما أنه لم يُبت في تهم اساءة استخدام أموال القسم والمحسوبية والتحرش الجنسي الموجهة الى مديرة القسم، كارينا بيريللي، فإن مصداقية الأمم المتحدة في تقديم الدعم الانتخابي ستكون موضع شك الى حد كبير.

بعد عقود من التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية، يستعد لبنان لبدء حياة سياسية تعددية وديمقراطية جديدة، بمنأىً عن أية تدخلات أجنبية. ولكن الدعوات الملحّة التي أطلقتها حكومات عديدة، والتي أيّدها الأمين العام للأمم المتحدة، بإجراء الانتخابات في موعدها، قد تشير الى حقيقة جديدة، وهي أن لبنان لم يتمكن بعد من تحرير نفسه تماماً من التدخلات الخارجية كافة. ففي حين يعلن الرئيس بوش «ان الشعب اللبناني هو الذي سيقرر في نهاية المطاف مصير البلاد»، اذ به يطالب بتفكيك «حزب الله»، الذي يعتبره معظم اللبنانيين حركة مقاومة لا «منظمة ارهابية»، كما يصفه البيت الأبيض.

وفي اطار سعي الأميركيين والأوروبيين الى الدفع في اتجاه اجراء انتخابات نيابية تحت اشراف مراقبين دوليين، يعمدون الى تقديم دعم مالي يكون بمثابة حافز للسلطات اللبنانية للمضي في هذه العملية. ورغم طابع نشر الديموقراطية الذي تحاول القوة العظمى وحلفاؤها الأوروبيون اضفاءه على العملية السياسية في لبنان، الا أن تحركهم هذا يُعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية للبنان، وكأنه جرى استبدال هيمنة بأُخرى. لذا ينبغي للبنانيين التنبه، لعدم الوقوع تحت وصاية جديدة مقنّعة تخفي في ثناياها فصلاً من فصول مشروع الشرق الأوسط الجديد.

* مديرة مكتب «الشرق الأوسط»

في الأمم المتحدة