الإنسان العربي.. محاولة في تفسير «فساده» الحضاري

TT

أخذ الحديث عن الفساد وانحراف القيم الحضارية عند الإنسان العربي مسارات متعددة، ومع التطور والتعقيد لهذا الانحراف الذي أخذ شكلا بنيويا، تحولت معه بعض الممارسات إلى سلوك طبيعي في كثير من الحالات...

والحق أنه ما زالت الدراسات والأبحاث العربية عاجزة عن التعمق في تحليل هذه الظواهر، ومع كثرة ما يقدم من هجاء شعبي ورسمي للفساد في وسائل الإعلام، تبلد الإحساس العام ولم تعد تثير الأرقام والحقائق دهشة الكثيرين. ومع تعدد الكتابات والدراسات التي تعرضت لفساد الأنظمة السياسية والنظم الاجتماعية والثقافية لا نجد رصدا منهجيا ودقيقا لمسار تحولات القيم الحضارية والمفاهيم الأخلاقية لدى الإنسان العربي منذ بداية احتكاكه المعاصر بالمدنية الحديثة خلال القرن الماضي، وتأمل تأثيرها المباشر على عدم نجاح خطط التنمية وخطوات التحديث في عالمنا العربي.

هناك مسارات مجهولة في رصد التحولات الحديثة والتي أدت إلى انتشار الفساد الفردي عند العربي المعاصر وتحولها إلى سلوكيات عامة. الأرقام المتوفرة عادة من خلال التقارير الدولية والعربية تحدثنا عن النتائج لا عن الأسباب، فهناك ملامح من الانحطاط لا تفسرها الحاجات المادية المباشرة، وسلوكيات جديدة لا ترصدها الأرقام، كشيوع الذاتية، وانحدار الذوق العام، وتحول «الفهلوة» والنفاق إلى شطارة اجتماعية وغيرها.

أغلب هذه الظواهر لم تكن موجودة ومنتشرة في الجيل السابق والذي عاصر بدايات التحديث وتشكل الطبقات الاجتماعية الجديدة والمتمدنة في أكثر من بلد عربي، وكان من المفترض أن تسير هذه القيم الحضارية باتجاه تصاعدي، لكن الذي حدث هو انكسار حاد لها، ونلمس حنينا شديدا عند الكبار لثقافة وسلوكيات البدايات النهضوية. هذا الانحدار الذي ربطه بعض المثقفين العرب بزمن الانقلابات العسكرية والثورات العربية، مما أدى إلى تشوهات في القيم المدنية، ضربت أعماق مراكز التحضر العربي والتنوير الثقافي، وبدلا من أن يشتغل المثقف العربي الشاهد على هذه التحولات والتغيير الاجتماعي بمعرفة أسبابه الحقيقية والعميقة، وفق المتغيرات القريبة قبل البعيدة، اتخذت هذه المعالجات عدة مسارات لم تقدم حتى الآن تشخيصا عقلانيا مفهوما لهذا الانحدار وانتشار الفساد.

اتجاه ثوري بدلا من أن ينشغل في عيوب ثقافته الثورية وتطبيقاتها من الداخل بحث عن علة خارجية، تفسر له هذا الانحطاط بسهولة، وتعفيه من تأمل كوارث الانقلابات السياسية على الحراك الاجتماعي. فكان هجاء النفط وأهله فكرة محورية عند هذا الخط، تختلف درجته بين فترة وأخرى. وقد شاعت أدبيات في هجاء الزمن النفطي من شخصيات ثقافية كثيرة، وينقل محمد جابر الأنصاري نموذجا منها في (مساءلة الهزيمة) عن هاني الراهب قوله «الزمن النفطي هو المأساة كل المأساة، فقد كان الناس قبله يتركون متاجرهم مفتوحة ويذهبون للصلاة، أما في الزمن النفطي الخليجي فحتى الأحذية تسرق.. حتى الأحذية».

لم يقدم هذا الاتجاه آراء علمية، ولغة تحترم منهجية البحوث السياسية والاجتماعية، حيث غلب عليها الهجاء الانطباعي وروح الانتقام الشخصي، وتكمن خطورة هذا الاتجاه في أنه ضلل الكثيرين عن الحقائق وعوامل الفساد مبكرا، وكان هروبا من مواجهة الفشل الذاتي. ومع أن النفط يعتبر متغيرا كبيرا للدول التي وجد فيها، إلا أن الآراء التعسفية في تعميم مساوئه في كل البلاد العربية تطرف في النظر العلمي.

ومقابل هذا الاتجاه جاءت رؤى بعض المفكرين الكبار من مدارس مختلفة على شكل مشروعات فردية رصينة ومحترمة تميز كل شخصية، تحاول غربلة كثير من الأفكار المعاصرة والتراث، للخروج برؤية عقلانية عن إشكالية الإنسان العربي مع حضارة اليوم، ومع قيمتها العلمية عند النخب، إلا أن استحضار نقد النظم السياسية والثقافية جاء على حساب تأمل حالات الإنسان الفرد، وفي حالات كثيرة الطموح الكبير في غربلة تراث وتاريخ أكثر من عشر قرون للخروج برؤى كلية وشاملة، أثر على جانب التركيز في بناء مفاهيم ومعالجات حضارية محددة.

اتجاه آخر جاء مع نشوء الظاهرة الدينية وما سمي بالصحوة الإسلامية في العالم العربي، لم يقدم هذا التيار بعد أكثر من ثلاثة عقود تفسيرات عقلانية معتبرة في العلوم السياسية والاجتماعية، ولم ينجح في إنقاذ القيم الحضارية من التدهور المستمر مع نجاحه الكبير في إعادة الكثيرين إلى التدين والمحافظة على الواجبات الآخروية، لأن اهتمام الخطاب الوعظي وأولياته تكون عادة في هذا الاتجاه.

في مجال التشخيص لم يستطع الفكر الديني السائد الذي تغلب عليه الروح النقلية فهم المشكلات الحضارية، من بناء رؤية عقلانية لمثل هذه الأزمات. وحتى عندما ظهر أمثال مالك بن نبي كشعلة مضيئة في تعقل الحضارة، لم يخدم هذا التيار مثل هذا الاتجاه العقلاني كما خدم رؤية سيد قطب في الخلاص الحضاري.

هناك العديد من المحاولات التي اشتغلت في البحث عن مشكلات التنمية وخطط التحديث برؤية عقلانية يغلب عليها البعد الاقتصادي وقدمت بعض الحقائق والأرقام الهامة، لكن تهميش الجانب الفكري والثقافي ودورهما في اجهاض خطط التنمية أدى الى عقم مثل هذه الرؤى. وفي السنوات الأخيرة أخذ البعد الاداري يتحول الى موضة تناسب كل التيارات كعلاج سهل للتخلف الحضاري، وهو نموذج جديد للهروب من التعمق في أزمة الفكر إلى آليات ورؤى تقنية بحتة. بعض المحاولات الفكرية المعاصرة في تفسير الفساد الحضاري أغرقت في استحضار الماضي البعيد والاعتماد عليه في تحليل كل الظواهر الجديدة، وكأن القصيدة الجاهلية وأمثالها والأحداث التاريخية القديمة تسيطر على سلوكيات الإنسان المعاصر بشكل صارم، وتطرفت بعض هذه الرؤى وكأنها تقول، إن هناك علة «نسقية»! لا يمكن الفكاك منها، تشبه البعد البيولوجي. ومع أهمية استحضار الماضي كمؤثر على الحاضر إلا أن التصور الوهمي الشائع بأننا كلما أغرقنا في دهاليز القرون البعيدة كلما أعطى مؤشرا على عمق هذه الرؤى في تفسير العجز الحضاري يحتاج إلى إعادة نظر وتمييز. هروب الكثير من النخب عن مؤثرات الحاضر يعود إلى عدم جرأتهم في تناولها أو إلى صعوبة البدء في تأسيس رؤى مبتكرة والخوض في مناطق جديدة على البحوث والدراسات.

ومع كثرة النقد والاطروحات التي تتعلق بالإصلاح والتغيير في الأنظمة السياسية، فما زلنا نجهل دور مؤثرات كبرى معاصرة على ذهنية الفرد.. وكشف تأُثير الثقافات الجديدة، والوعي السياسي السائد ودور الانخراط الحزبي عند مختلف التيارات في تشويه القيم الحضارية، ونجهل تأثير عدد كبير من المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الوعي الحضاري، للتمييز بين الفساد الذاتي والمكتسب. وهل طبيعة النظم السياسية العربية تصنع الفساد الفردي أم أن قابلية الإنسان العربي للفساد أدت إلى أنظمة فاشلة، للخروج من الدائرة العقيمة في صنع التبريرات السائدة عند كل طرف.. عبر جدلية الماضي والحاضر.. والحكومة والشعب.. ومن يتحمل مسؤولية الفساد والانحطاط الحضاري؟!