سجناء رأي وسجناء خوف!

TT

إذا كنت تتابع الإعلام العربي فقط، فمن الصعب أن تصل إلى حقيقة ما دار بين بوش وشارون حول الاستيطان في فلسطين، لأن الحملة الإعلامية المركّزة التي أطلقتها إسرائيل قبل زيارة شارون إلى الولايات المتحدة حاولت كالعادة أن تظهر ثقة لا متناهية بالعلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية بغض النظر عما تغتصبه إسرائيل من أرض وكم تقتل من فلسطينيين، ولكنّ الصحافة الإسرائيلية خصوصاً والغربية عموماً ألقت بعض الأضواء المهمة على خلافات جوهرية بين بوش وشارون، مما دفع بشارون أن يغيّر خط محادثاته مع بوش بالتركيز على الهجوم على محمود عبّاس بدل الدفاع عن الاستيطان.

واعترفت وزيرة الاستيطان الإسرائيلية أن الأمور ليست سهلة بين الطرفين، وأنه من الواضح أنّ خلافات أعمق ستحصل بينهما. ومن الطبيعي أن شارون قلل من شأن هذا الخلاف، ولكن حين أعلنت إسرائيل نيتها بناء 50 منزلاً في مستعمرة (الكانا) شمال الضفة الغربية، قال المتحدّث باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان لصحافيين مرافقين للرئيس الأميركي جورج بوش في سفره «سنسعى للحصول على إيضاحات من حكومة إسرائيل.. لا ينبغي لإسرائيل أن توسّع المستوطنات». ورغم أن هذا الموقف يمثــّل أضعف الإيمان من قبل دولة كبرى اتجاه شعب أعزل، فإنه مع ذلك يمثــّل نقطة مهمة في توقـّف أميركي ولو مؤقت للكفّ عن الدعم الأعمى لإسرائيل في كلّ ما تقوم به من خرق لحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ودياره. ومع المعرفة الدقيقة لحجم هذه الخطوة، فإنه يمكن للعرب أيضاً أن يدفعوا العالم للتوقف عندها والتأكيد عليها وتشجيع كلّ الأصوات الحرّة في العالم أن تطالب الولايات المتحدة بالتوقف عن دعم حرب الإبادة التي يشنّها شارون بكل السبل ضدّ الشعب الفلسطيني وضدّ حقّه التاريخي في أرضه ودياره.

على العرب أن يتوقفوا عند مثل هذا المفصل ليتذكّروا أن الظلم الذي يحلّ بالشعوب لا يمكن أن يكون قََدَرَاً مهما طال أمده إذا ما وقفت هذه الشعوب بحزم وصلابة وإيمان ضدّ هذا الظلم. ففي الوقت الذي حاول سيلفان شالوم استغلال الدعاية الكاذبة عن نجاح زيارة شارون بالتقدم بصفاقة من بعض العرب بخريطة طريق للتطبيع مع الدول العربية مع تجاهل احتلال إسرائيل للأراضي العربية والحقوق العربية ومع استمرارها بسياساتها العنصرية الاستيطانية ضدّ العرب، كان الأكاديميون البريطانيون في بعض الجامعات البريطانية يعدّون حملة لمقاطعة أكاديميي الجامعات الإسرائيلية، احتجاجاً على تنكيل إسرائيل بالفلسطينيين وقتلها الأطفال الفلسطينيين. كما أثار قرار المحكمة الإسرائيلية بتبرئة الجندي الإسرائيلي، الذي قتل المخرج البريطاني جيمس ميللر، وهو يصوّر فيلماً عن أطفال فلسطين، سخط الشارع البريطاني الذي سخر من القضاء الإسرائيلي وإدعاءاته الكاذبة بالنزاهة. وفي الوقت ذاته استنكر ذوو الضمائر الحرّة في العالم تقليد الضابط الإسرائيلي، الذي قتل الطفلة إيمان الهمص الفلسطينية، وسام شجاعة، وتبنت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بأغلبية تسعة وثلاثين صوتاً مقابل صوتين (لأميركا واستراليا)، وامتناع 12 عن التصويت قراراً يحضّ إسرائيل على وقف استيطانها في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس والجولان السوري كخطوة أولى نحو إزالة المستعمرات ووقف توسّعها فوراً.

وبالمناسبة فإن قرارات مجلس الأمن تنص على تفكيك المستعمرات وليس على تجميدها، أوعلى إزالة المستوطنات اللاشرعية، إذ أنّ الاستيطان برمته غير شرعي، ولا يؤثر إذا قال بوش أنه من غير الواقعي مطالبة إسرائيل بتفكيك وإزالة المستوطنات منذ عام 1949 إذ لا يملك بوش حق إهداء الأرض الفلسطينية لمستعمرين مقبلين، إذا ما قرّر الشعب العربي عدم التخلّي عن حقوقه، وها هي تجارب الشعوب تثبت أنّ الشعب الذي يؤمن بحقّه ويتمسك به ويناضل من أجله لا يمكن لقوّة في التاريخ مهما عظمت ومهما طال الزمن أن تلغي هذا الحق.

ولاستعادة بعض الثقة بالشعب والحقوق، لننظر إما إلى داخل السجون الإسرائيلية، حيث يقف آلاف المؤمنين والمؤمنات بأمتهم وحقوقهم ومستقبل شعبهم يمثـّلون إرادة هذه الأمة الصلبة وهم ليسوا «أسرى»، كما يقال عنهم، لأنّ إسرائيل لم تأسرهم خلال حرب بين جيشين، بل هم «سجناء رأي» خطفتهم إسرائيل من بيوتهم وديارهم ووضعتهم خلف القضبان، لا لجرم ارتكبوه، بل لأنهم أمنوا بحقـّهم وأعلنوا عن هذا الإيمان وعن استعدادهم للقضاء في سبيل هذا الحق.

ولينظر العرب الآخرون إما إلى ما يحاول الشعب العربي قوله، وإما إلى ما يحاول المؤمنون بالحقّ والعدالة من غير العرب التركيز عليه. فرغم ما تروّج له الدعاية الإسرائيلية بأن دولاً عربية ستطبِّع مع إسرائيل ورغم الإعلان مثلاً عن زيارة مقبلة لوزير خارجية إسرائيل إلى موريتانيا تعتلي أصوات حرّة في موريتانيا لتقول لن يطبِّع الشعب الموريتاني إلى أن يعود حقّ العرب للعرب. وفي اندونيسيا مثلاً خرجت مظاهرات عارمة تدعوإلى حماية المسجد الأقصى وإلى عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه ودياره. وفي بوتراجايا (ماليزيا) عُقِدَ في أواخر آذار مؤتمر دولي للمجتمع المدني من أجل السلام في فلسطين أكـّد فيه آلاف المؤتمرين على حقّ الشعب الفلسطيني في أرضه ودياره وعلى ضرورة العمل لحثّ الأسرة الدولية الوقوف ضدّ سياسة التمييز العنصري التي تمارسها إسرائيل في فلسطين وتطبيق السياسة التي طبّقها العالم ضدّ نظام جنوب أفريقيا العنصري إلى أن ينال الشعب الفلسطيني حقّه كاملاً في أرضه ودياره. وذكروا أنه حتى إذا انسحبت إسرائيل من كافة أراضي الضفّة الغربية والقطاع تكون قد ابتلعت 78 % من فلسطين وهذا ما يجب على إسرائيل وكل من يدعمها أن يقدّره كل التقدير. وذكـّروا بالموقف الواضح والمطلق الذي تبناه المجتمع المدني من القضية الفلسطينية من خلال منتدى المؤسسات غير الحكومية بالتعاون مع قمّة الأمم المتحدة في دوربان ـ أفريقية الجنوبية عام 2001 كما قامت الأمم المتحدة بالمبادرة في تشجيع مؤسسات المجتمع المدني لدعم حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتغيير.

وفي أجزاء مختلفة من العالم ترتفع أصوات جريئة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية إلى أن تتوقف إسرائيل عن التنكيل بالشعب الفلسطيني وسرقة أرضه ومياهه. وهنا يأتي دور العرب الذين يجب أن يتوقّفوا عن الانخراط في اللغة والإطار الفكري الذي تصمّمه لهم الدوائر الصهيونية المجهزة على حقوقهم وديارهم، وأن يتوقفوا عن الخوف من المدّ الأميركي والصهيوني، وأن يؤمنوا بحقوقهم وشعوبهم وأن يعتبر كلّ عربيّ في أي قطر كان نفسه معنيّاً وقادراً على مواجهة الظلم بالإشارة إلى نور الحقّ والعدالة والدعوة إلى السلام وليس الاستسلام، ومن خلال التمسّك بالحقوق والأرض والهوية، وهناك ما يكفي من ذوي الضمائر الحرّة في العالم الذين سبقوا العرب في تبني القضايا العربية العادلة ولا يحتاجون إلا إلى إيمان عربي راسخ يقود هذا التوجّه. فمع كل الدعم الدولي لشعب جنوب أفريقيا لم يكن لينجح لو تزعزعت ثقة ذلك الشعب بحقـّه في حياة حرّة كريمة، ولو تخلـّى نيلسون مانديلا عن حقـّه ورضخ للمعاملة العنصرية المهينة. لا شك أن المرحلة صعبة للعرب جميعاً، لأنهم مستهدفون أرضاً وشعباً وهوية وثقافة، ولكنّ الخيار الوحيد المتاح لهم هوالإيمان بهذه الهوية والدفاع عنها والموت من أجلها إن اقتضى الأمر، ولكن عدم التنازل عنها تحت أي ذريعة كانت لأن التنازل عنها يعني مصادرة حق الأجيال بمستقبل كريم مشرّف. هناك آلاف من سجناء الرأي الشجعان في السجون الإسرائيلية، ولكن لا شيء يرغم ملايين العرب الأحرار أن يكونوا سجناء خوف من إعلاء أصواتهم في كلّ مكان، من أجل الحقّ والخير والعدالة والسلام، ومستقبل أفضل للبشرية جمعاء.