الانسحاب السوري ومهمة التثبت المستحيلة

TT

المهتمون بالوضع في لبنان وبالدور الذي تضطلع به الأمم المتحدة منذ اعتماد قرار مجلس الأمن 1559، سيجدون أن قراءة التقرير نصف السنوي الأول للأمين العام للمنظمة الدولية كوفي أنان، الذي صدر الثلاثاء الماضي، ضرورية من أجل فهم التجاذبات المتعلقة بالملف اللبناني.

فقد اولى كوفي أنان في تقريره، الذي لا يتعدى 13 صفحة، مسألة «سيادة لبنان وسلامة أراضيه ووحدته واستقلاله السياسي» الأولوية القصوى، لما بذله من جهود خلال الأشهر الستة الأخيرة. وهو صادق بعض الشيء في قوله هذا، وما يعكس صدقه في هذا الموضوع هو أنه ذهب مع مبعوثه الخاص المعني بمتابعة تطبيق القرار 1559، تيري رود لارسن، الى حد مشاطرة باريس وواشنطن تفسيرهما لعبارتي «القوات الأجنبية» المحوريتين في القرار، الذي قد يدخلهم جميعاً في متاهات غير محسوبة. فإذا كانت «القوات الأجنبية» تشمل عناصر الاستخبارات المدنيين الذين لا يمكن تمييزهم عن غيرهم، فان أنان ولارسن سيواجهان تحدياً كبيراً، وهو التثبت من أن جميع عناصر الاستخبارات قد غادرت لبنان. وعندما طرحتُ هذه المشكلة على مسؤول رفيع في الأمم المتحدة معني بالملف اللبناني، كان لرده دلالات واضحة بقوله: «بالطبع أنت تثيرين نقطة أساسية في هذا المجال».

حتى الآن، كان من شبه الطبيعي أن يحصر أنان تركيزه على مسؤولي الاستخبارات السوريين، وأن يرسل فريقاً الى سوريا ولبنان سعياً منه الى التحقق مما اذا انسحبت جميع القوات الأجنبية، بما في ذلك عناصر الاستخبارات، من لبنان. وقد يبدو هذا الأمر معقولاً للوهلة الأولى، الا متى اتضح لنا أن هذا «الفريق» لا يضم الا ثلاثة مسؤولين تابعين للأمم المتحدة. في حين يُتوقع أن تضم اللجنة الدولية، التي أنشأها مجلس الأمن للتحقيق في اغتيال رفيق الحريري، حوالي مئة شخص. ومهمة هذه اللجنة من الصعوبة بحيث بات من العسير على أنان اقناع مدع عام أو قاضي تحقيق مناسب ليرأسها.

وكشف المسؤول الرفيع في الأمم المتحدة أن أنان منح فريق التحقق المكون من ثلاثة أشخاص، الذي لم يُنشأ بتفويض من مجلس الأمن، صلاحيات محددة بقيت سرية. وبالمقارنة، عندما طلب مجلس الأمن في العام 1978 من الأمين العام التحقق من الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، الذي لم يحصل الا بعد 22 سنة، قام المجلس بانشاء قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، وهي بعثة عسكرية كاملة القوام. ومع ذلك، عندما أكد أنان في مايو 2000 ان جميع القوات الاسرائيلية انسحبت من الأراضي اللبنانية، لم يأتِِ أحد على ذكر انسحاب عناصر الاستخبارات الاسرائيلية. والتعليل المنطقي لاغفال هذا الأمر هو أنه يستحيل التثبت من أن جميع الجواسيس قد غادروا البلد. وكانت بعثة الأمم المتحدة في كمبوديا، التي وصل عديدها الى 15 ألف شخص، قد واجهت هذه المعضلة مطلع التسعينات، عندما حاولت التثبت من أن جميع عناصر الاستخبارات الفيتنامية قد غادرت البلاد.

وقد اتضح ادراك المسؤول في الأمم المتحدة لهذه المعضلة بقوله: «اذا غيّر عناصر الاستخبارات السورية مواقعهم المعروفة يستحيل التثبّت من ذلك، ولكن فريق الأمم المتحدة لديه أيضاً صلاحيات للحصول على معلومات من مصادر أخرى مختلفة من أجل القيام، على أفضل وجه ممكن، بتقييم حول ما اذا كان هذا الانسحاب قد تم أم لا». وهذا يعني، بعبارة أوضح، أنه سُمح للفريق بطلب معلومات من مصادر استخباراتية أخرى لانجاز مهمته. ولدى مواجهته باحتمال وجود عناصر استخبارات آخرين في لبنان، أجاب المسؤول الذي اشترط عدم ذكر اسمه: «حسب معلوماتنا، لا وجود الا لاستخبارات سورية في لبنان وهذا هو السبب الذي جعلنا نركز عليها، ولكن، عندما سنبدأ العمل جدياً على مسألة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، فان كل ما يندرج ضمن هذه الفئة سيخضع بالتأكيد للتدقيق من قبل ممثلين عن الأمم المتحدة». وأوضح المسؤول أن المنظمة الدولية «ستتناول بجدية وبشكل عملي في مرحلة لاحقة الأمور الأخرى التي ينص عليها القرار 1559، الأمر الذي سيتطلب أيضاً آلية تحقق ما». وكان المسؤول يشير الى بعض التقارير التي تحدثت عن وجود ايرانيين يعملون لحساب حزب الله، الذي وصفه بالميليشيا. وقد تعمّد أنان ولارسن ارجاء موضوع حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، التي يطالب بها القرار 1559 الى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة. وأما في ما يتعلق بعناصر الاستخبارات الاسرائيلية واستمرار الاحتلال الاسرائيلي لمزارع شبعا، فلا يبدو أن هذا الموضوع يقلق أنان، لأنه يعتبر في تقريره «أن اسرائيل سحبت قواتها من الأراضي اللبنانية كافة في مايو 2000».

ويبقى السؤال المركزي ما اذا كان الأمين العام للأمم المتحدة سيجد نفسه قادراً على تأكيد ما اذا كان جميع عناصر الاستخبارات الأجنبية قد غادروا لبنان؟ وكيف سيتعامل مع موضوع اللبنانيين الذين يعملون لحساب أجهزة الاستخبارات الأجنبية؟ أما وقد ألزم أنان ومبعوثه الخاص نفسيهما بالتحقق من أن كل القوات الأجنبية وعناصر الاستخبارات انسحبت من لبنان، قد يصطدمان مع أعضاء في مجلس الأمن، لأنه اذا كان بعضهم راضياً عن انسحاب القوات السورية من لبنان، قد تكون لدى بعضهم الآخر خطط أوسع وأكثر طموحاً للمنطقة، بوجود أجهزة استخبارات أو عدمها.