خريج السجون

TT

في بلدة لا أريد أن اسميها، كانت هناك صحيفة محلية أعلنت عن مسابقة لاكتشاف أفضل المواطنين في تلك البلدة من ناحية الأخلاق الحميدة والسلوك الحسن والتمسك بالمبادئ السامية، وقد جاء ما بين الرسائل التي وصلت الرسالة التالية:

«انني لا أدخن، ولا أشرب الخمر، ولا أقامر، وأنا مخلص لزوجتي، ولا انظر قط لامرأة أخرى، وأعمل عملاً شاقاً، وهادئ ومطيع، ولا اذهب قط إلى السينما والمسرح والمراقص، وأذهب إلى فراشي مبكراً كل ليلة واستيقظ مع الفجر، وأواظب على الصلوات في حينها، لقد سرت على هذه الحال طوال السنوات الثلاث الماضية، ولكن انتظروا حتى الربيع القادم، عندما يطلقون سراحي».

طبعاً هذا مجرم وأديب محترف، ولو أنني كنت من ضمن لجنة التحكيم لمنحته جائزة ترضيه لصدقه، لأنني لو كنت في مكانه فلن أقول اصدق مما قاله.

لا اعلم كم هو عدد المساجين في العالم، ولكنه بدون شك عدد مهول، ورغم قناعتي بحتمية السجون، إلا انني في نفس الوقت لا املك إلا التعاطف مع من هم بداخلها، فليس هناك في الدنيا بأكملها أكثر عذاباً من (تقييد الحرية)، ولا اسوأ اختراع أو صناعة من (الأغلال أو السلاسل) ـ ما عدا السلاسل التي توضع أطواقاً لأعناق الكلاب، وأساور لمعاصم النساء ـ

السجن ليس (للجدعان) كما تصوره لنا بعض الأفلام المصرية، ولكنه للتعساء الذين أغلقت في وجوههم الأبواب، والذين حشروا في الزنازين مثلما تحشر البهائم في الزرائب، والذين لا يرون الشمس حينما تشرق ولا القمر حينما يبزغ ويضيء، والذين كان الليل والظلام لهم مهاداً ووساداً، والذين يحسدون الذبابة وهي الذبابة، حينما تدخل وتخرج ما بين القضبان وأمام أعين الحراس بكل طلاقة وحرية.

وأنني حينما أتكلم عن السجون فإنني لا أتكلم من فراغ، ولكنني أتكلم عن تجربة، وتستطيعون أن تقولوا عني بدون أي حرج: أنني (خريج سجون)، فقد جربت السجن نصف يوم كامل ـ أي ست ساعات تقريباً ـ، في سجن انفرادي وذلك عندما عوقبت لخطأ اقترفته في مدرستي الداخلية بالمرحلة الابتدائية، ومن ذلك الوقت تجرعت مرارة السجن، وعرفت كيف يكون الإنسان مشلولاً و(مدقوماً).

واستغل هذه الفرصة (الإجرامية) لاقترح على كل مديري السجون (البشوشين)، أن يفرضوا (رسوم اقامة) على كل مسجون ثري وقادر وميسور ومليونير من المسجونين فيكون ما يفرض عليهم يتناسب مع مكانتهم المرموقة، فليس عدلاً ممن حباه الله نعمه ويخطئ في حق مجتمعه أن نسجنه هكذا (ببلاش) فلا بد أن يدفع (ويكع)، أما الفقير المعوز فيكفيه أن (يهرش) جلده ـ على شرط أن يستمر في الهرش حتى يسيل دمه.