ضاع «السلام الذي بيننا»

TT

العوض على الله.. العوض في وجه الله. لقد تأكدت الآن أن الكتاب قد ضاع. ولا داعي للبحث عنه في أي مكان. فقد كان الرئيس السادات قد كلفني بأن أؤلف كتابا عن «السلام الذي بيننا». ويعلم الله كم تعبت وتعذبت وتنقلت بين الوثائق في مصر وفي إسرائيل. وكم سألت وكم قابلت. وفي هذا الكتاب ناقشت معنى السلام في الحضارات القديمة. وفي اليهودية والمسيحية والإسلام وفي العصر الحديث. وقرأت معظم الصفحات على الرئيس السادات فأشار وأشاد. وأضفت وحذفت. غلطتي: أنني لم احتفظ بنسخة من هذا الكتاب. وتذكرت ما حدث لاستاذنا عباس العقاد. منذ ألف هو الآخر كتابا عن الإسلام بين اصدقائه وخصومه. وضاع الكتاب. فقد كان من نسخة خطية واحدة. ولكني، وبالصدفة، عثرت على كتاب الاستاذ العقاد يوم انتقال وثائق المجلس الإسلامي من مبناه في حي الزمالك إلى مبناه في حي جاردن سيتي!

ولكن هذه المعجزة لم تتكرر. فبعد أن سألت كل رجال المراسم والسكرتارية الخاصة للرئيس. لم يظهر للكتاب أي أثر.. وعندما نشرت أن السادات طلب مني أن أهدي هذا الكتاب إلى المستشار الألماني هلموت شميت اندهش الرجل. وبعث بمن يسألني: لماذا؟ ومتى كان هذا القرار ولماذا؟ أي أنه يسألني عن سبب الهدية. ومتى قرر السادات ذلك ولماذا؟! والحقيقة أنني لا أذكر إلا أن السادات كان معجبا بالمستشار الألماني. وبعد وفاة السادات أعلن المستشار الألماني أن السادات هو أعظم رجل في التاريخ ـ سمعت ذلك بأذني عندما كانوا يحتفلون بعيد ميلاده ـ فالسادات وعبد الناصر وشميت قد ولدوا في سنة واحدة هي سنة 1918.. ولما جاء الرئيس الأميركي كارتر إلى مصر بعث سكرتيره يسألني: لماذا الإهداء إلى شميت مع أنه مع السادات قد صنعا السلام؟ ولم أجد ما أقوله. أو قلت كل ما معناه أن جزءا من الكتاب قد أهداه إلى المستشار الألماني، والجزء الثاني إلى الرئيس الأميركي!!

وكتاب آخر مع عظيم الآسى والأسف.. فقد كنت جمعت مقالات بعنوان: «وكانت الصحة هي الثمن» تحدثت فيها عن أمراض العظماء الذين دفعوا ثمن العظمة: أرقا وقلقا ومرضا. وانتهزتها فرصة وتحدثت عن مرض الرئيس جمال عبد الناصر.. وكان مرضه يسمى «مرض بيرجر».. وفي الموسوعات الطبية يقولون: إنه مرض اليهود.. فقد ظهر أول مرة بين اليهود الذين يتابعون أخبار البورصة بمنتهى القلق والعذاب.. وبعضهم قد أصيب بمرض السكر. نوع خاص هو الذي سمي «مرض بيرجر».. وهو عبارة عن تخثر في شعيرات الساقين يصيبهم بالألم الشديد.. واتصل بي السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية.. وذهبت إليه وقال لي: احترس إنهم يريدون أن ينالوك بسوء. فقد أحسوا من مقالاتك أنك تعرض بهم وبالرئيس عبد الناصر واحترست وغيرت مسار الكلام.

ثم نشرت المقالات في كتاب بنفس العنوان، وألفت بعد ذلك كتابا عن «موتسارت ـ الطفل المعجزة» وتعرضت لمرضه. وأمراض بعض الموسيقيين.. وهنا وقعت تحت اغراء شديد وهو أن أتناول حياة عباقرة الموسيقى بمن فيهم محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وسيد درويش والموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي وماذا أصابهم من أمراض ولماذا.. وتجمع لي في مجلد واحد أكثر من مائتي موسيقار ومطرب عالمي.. وجعلت عنوان الكتاب «قلبك يوجعني» وجعلت مقدمة هذا الكتاب عبارة واحدة كتبها الشاعر الايطالي دانتي على باب جهنم، العبارة تقول: أيها الداخلون اتركوا وراءكم أي أمل في النجاة..

أي الداخلون إلى جهنم الفن وجنات الوهم. فكل هؤلاء العظماء ينسجون زيهم الأبدي من جهنم الواقع وجنة الخيال. والنتيجة أن تساقطوا مرضا. فهذا هو الثمن. وهم يقبلون على كل ذلك بمنتهى الاخلاص.. بقلوب عامرة بالحب والتضحية.. وبالموت من أجل جملة جميلة. فكيف لا توجعني قلوبهم. أوجعتني. وأوجعتني أكثر عندما ضاع هذا الكتاب عند أحد الناشرين ـ يرحمه الله!

قد تورطت في أن أدعو له بالرحمة فقد تعذبت كثيرا أثناء تأليف هذا الكتاب، ولقد تأكدت أنه ضاع.. تبدد.. أو أن هؤلاء الموتى العظماء قد سحبوه معهم. والله يعلم كم أحببتهم. ولكن المثل يقول إن الحب بهدلة ـ أقسى أنواع البهدلة!