رسائل السويس المحادثة هي البديل (2)

TT

تشكل المراسلات بين دوايت ايزنهاور وانطوني ايدن درسا في التاريخ والعلوم السياسية. وقد رفض العرب، صحافيين ومؤرخين ومثقفين، النظر او اعادة النظر في تلك المرحلة. ومع ان ايزنهاور وجه انذارا شهيرا الى المعتدين بوقف الحرب فورا، فقد ذهب كل الفضل في ذلك الى الاتحاد السوفياتي. ولم يتقبل أي سياسي او مسؤول او صحافي عربي، موقف ايزنهاور على ما هو. ولم يعط مؤرخ الثورة المصرية الاستاذ محمد حسنين هيكل الدور الاميركي في وقف العدوان، أي اهتمام حقيقي او على الاقل كاف. فقد كان المزاج العربي والمناخ العربي العام معاديا «للامبريالية» الاميركية. ولذلك ذهب دور ايزنهاور، المميز وغير المألوف، بين اقدام الغاضبين وخطباء المرحلة. ولست ادري ماذا كان اثر ذلك فيما بعد على سياسة اميركا وردود فعلها. فهي دولة مستعدة في الاساس لمنح اسرائيل أي تأييد سياسي واميركي اعمى ومطلق. ولكن ها هو رئيسها يقف هذه المرة شهرا بعد شهر ويوما بعد يوم في وجه بريطانيا وفرنسا واسرائيل. ومع ذلك لا يعطى كل ذلك أي اهمية او أي اعتبار. وبالعكس ذهبت مصر الناصرية ومعها العالم العربي لتبجيل الانذار السوفياتي بوقف العدوان. وبدا وكأن لا دور لاميركا على الاطلاق. بل بدا وكأن الانذار الذي وجهه ايزنهاور هو مجرد بيان من طبقة «رفع العتب» وانه لم يكن يعني ما جاء فيه، بل كان بيانا متفقا عليه بين الفريقين، للضحك على الفريق المعتدى عليه.

بعد العدوان الثلاثي ظهر جزء من الرسائل بين ايزنهاور وايدن لكنه لم يكن كافيا لاقناع احد بالدور الذي لعبه رئيس اميركا لمرة واحدة في تاريخ العلاقات مع العرب. ولا شك بان الدور الاساسي في التجاهل او التعمية لعبه فريقان: البلادة العربية التي ترفض البحث في أي شيء او قراءة أي نص، والدهاء الاسرائيلي في اغلاق او تمويه أي طريق يمكن ان يلتقي في نهايته الاميركيون والعرب بالنسبة الى الموضوع الفلسطيني، وربما أي موضوع آخر.

في «الرسائل» نرى ايزنهاور غاضبا من التواطؤ بين بريطانيا وفرنسا واسرائيل. ويكتب الى ايدن في 30 اكتوبر من ذلك العام معربا عن دهشته لاكتشافه ان بريطانيا تعرقل محاولات اميركا لمنع اسرائيل من مهاجمة مصر. وكانت بريطانيا تخطط للتدخل بحجة منع اسرائيل من الهجوم على مصر. واتهم ايزنهاور ايدن بخداعه «وخرق التعهد القائم بين اميركا وفرنسا وبريطانيا الموقع العام 1950 والقاضي بتسوية النزاعات في الشرق الاوسط دون اللجوء الى القوة». وردّ ايدن بالقول ان الاتفاق اصبح في ذاكرة التاريخ، فأجاب ايزنهاور بأن بريطانيا تتجاهل التعهدات والامم المتحدة والقانون الدولي «واما اذا تبين ان اسرائيل تعتدي على مصر فهذا يعني صبّ الزيت على النار».

حاول ايدن اقناع ايزنهاور بأن الاعتداء في السويس هو جزء من الحرب الباردة. ففي الوقت الذي كان البريطانيون ينزلون في مصر كان السوفيات يحتلون هنغاريا. لكن ايزنهاور رفض الذريعة. وعندما جاء سفير بريطانيا الجديد لتقديم اوراق اعتماده اعطي الموعد الاكثر اذلالا في التاريخ: الساعة السابعة صباحا.

بعد شهرين ارغم ايدن على الاستقالة. وظلت الغرابة ان الرجلين اللذين تبادلا الرسائل لم يخطر لاحدهما استخدام الهاتف في احدى ادق واخطر المراحل المتعلقة بالسلم العالمي وليس فقط في الشرق الاوسط. ولذلك درجت بعد السويس عادة اللقاءات على مستوى القمة وبحث القضايا العاجلة وجها لوجه وليس عبر رسائل باردة ومحشوة بمصطلحات لا معنى لها. فالقادة بشر في نهاية المطاف ولم يعودوا كما كانوا من قبل.. حبرا على ورق ورسائل مقتضبة لا تقول كل شيء، واحيانا لا تقول شيئا على الاطلاق.