دوامة العنف العربي.. من الجاني ومن الضحية؟

TT

في الأسابيع القليلة الماضية لم يكن العراق وحده هو الذي يعاني يوميا من عدم الاستقرار جراء عمليات التفجير الانتحارية، وانما أيضا مصر والسعودية اللتان شهدتا هجمات مماثلة من جانب المتعصبين. فكيف ومن أين تتوفر مثل هذه الكثرة من الأشخاص الذين يرتكبون الانتحار حسب الطلب يوما اثر آخر؟ وما الذي يجري؟

في هذه التفجيرات أدلة على الصراع الأعمق الذي أثارته محاولة الولايات المتحدة اقامة الديمقراطية في العراق. ويجادل صديقي رايموند ستوك، كاتب سيرة ومترجم نجيب محفوظ والمقيم منذ زمن طويل في القاهرة، بأننا نرى على امتداد المنطقة التجسيد الحديث لحروب متشابكة ومتجذرة بصورة عميقة، وبعض تجلياتها هي هذه الحرب في اطار الاسلام بين التقليديين والاصلاحيين التي تعود الى بغداد في القرن التاسع، والصراع بين السنة والشيعة المتحمسين الذي يعود الى المعارك المتتابعة في صدر الاسلام، والمجابهة بين الاسلام والغرب التي تعود الى فتوحات العرب في القرن السابع والحملات الصليبية.

وأشار السيد ستوك الى ان «الانتخابات العراقية كانت صدمة كبرى للقوى التي تسمي نفسها بالجهاديين في العالم الاسلامي ـ العربي. فقد حذروا العراقيين قائلين: تنتخبون يعني تواجهون الموت. وبدلا من ذلك رد عليهم ملايين العراقيين: ننتخب ونقرر». والشيء الذي قرروه ليس تأييدا لأميركا، والغرب، وانما السعي الى بناء مجتمعهم العربي بطريقة ستكون منفتحة للحداثة ولتفسيرات الاسلام التي تشجع الابتكار والتكيف والتقدم.

ويكره المتطرفون هذا المفهوم وينظرون الى النضال من اجل الديمقراطية في العراق كونه ترياقا مخالفا لكل ما ينادون به..

والى ذلك كان أبو مصعب الزرقاوي قد أوضح ذلك بصورة مباشرة في خطاب له في يناير (كانون الثاني) الماضي عندما قال ان «الديمقراطية يجب أن تعارض لأنها قائمة على اساس اختيار الشخص لدينه وهذا يتعارض مع حكم الله»، على حد قوله. وأضاف قائلا: «يا اهل العراق، اين شرفكم؟ هل قبلتم بقهر الصليبيين؟».

يحاول الزرقاوي وحلفاؤه هزيمة اميركا في قلب العالم الاسلامي، إلا ان الزرقاوي وشركاءه يخسرون ويدركون ذلك جيدا. فبعد ان خسروا مجتمعهم ولم يعد لديهم برنامج يقدمونه، اصبحوا يعانون من الارتباك والتشويش الكامل ووصل معدل الانتحاريين الذين ينفذون التفجيرات في مختلف المواقع الى ثلاثة او اربعة في اليوم.

قال ستوك ان المتطرفين يدركون تماما ان وصول الديمقراطية الى العراق لا يعني سوى نهاية الزرقاوي ومن هم على شاكلته، ذلك ان الغالبية لا تقبل بأساليبهم ومجمل الرسالة التي يريدون الترويج لها. ويواصل ستوك حديثه قائلا: «انهم لا يريدون العيش كما كان يعيش الأفغان تحت ظل حكم حركة طالبان. اذا انتشرت الديمقراطية في العالم العربي، فإن ذلك لا يعني انها ستكون بالضرورة ديمقراطية موالية للولايات المتحدة، لكنها ستكون بالتأكيد ديمقراطية تحتم العيش والحياة وليس الانتحار. لن تكون عبادة موت، بل ثقافة حياة». ويشير ستوك الى غلاف لعدد من مجلة «روز اليوسف» المصرية صدر في الآونة الاخيرة تظهر عليه مغنيتان عربيتان تحت عنوان رئيسي: «أقوى من التطرف».

ليس ثمة شك في ان ما يحدث الآن في العراق يعتبر نضالا قويا وعميقا. لا شك ايضا في ان قوى الاعتدال والتعددية تحقق انتصارات بطيئة، إلا ان المعركة لم تنته بعد. الجيش الاميركي والحكومة العراقية المنتخبة ديمقراطيا لم يبسطا سيطرتهما الكاملة والمطلقة. وما لم نتلق مساعدة من العراقيين انفسهم لإيجاد بيئة آمنة في البلاد، وما لم تجد الحكومة العراقية الجديدة سبيلا لاستيعاب البعثيين السنة الاكثر براغماتية، فإن العراق لن يشهد ديمقراطية مستقرة. العناصر السيئة لن تحقق أي انتصار ولا العناصر الخيرة، ونكون بذلك قد أوجدنا أو أوقعنا أنفسنا في مأزق دموي.

*خدمة «نيويورك تايمز»