هل تسير السفينة الفلسطينية في الاتجاه الصحيح؟

TT

السفينة الفلسطينية مثقلة بأحمالها وأحمال الغير. فهل بمقدور الرئيس الفلسطيني محمود عباس بمفرده، دفع تلك السفينة للإبحار، مرة أخرى، باتجاه بر الدولة الفلسطينية المستقلة؟ وللإجابة عن مثل هكذا تساؤل، نحتاج أولا إلى تفقد ما قام الغير بتهريبه على متن تلك السفينة من بضاعة لا تخص الفلسطينيين بأي حال من الأحوال. والتخلص من تلك البضائع المهربة، هو مسؤولية كل المشتغلين بالفكر السياسي الفلسطيني.

الشعب الفلسطيني يستحق إعادة الاعتبار مما لحقه من أذى بسبب تلك العقلية السياسية المتخلفة التي قادته إلى الهزيمة في انتفاضته الثانية. فالخسائر الفلسطينية تجاوزت بكل الأحوال ما أعلن عنه من ضحايا وخسائر مادية وعودة شرسة إلى الاحتلال. بل قل ان الخسارة طالت حتى ما حققته الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى تاريخها. وهذا هو الأخطر. لقد ضحت هذه العقلية بمنجز دفع الشعب الفلسطيني ثمنه من دماء أبنائه الكثير. إنه استقلالية القرار الوطني الفلسطيني. وليس بوسع المرء إلا أن يصاب بالصدمة والخيبة أمام إصرار البعض على انتهاج سياسة تبنت أجندة بعض الأنظمة العربية في الإبقاء على الجرح الفلسطيني مفتوحا ونازفا لأغراض لا علاقة لها في مطلق الأحوال بمصالح الشعب الفلسطيني. لقد بدا القرار الوطني الفلسطيني على مدار سنوات الانتفاضة الأربع مغيبا وغائبا إلى حد تعذر معه إيجاد حدود فاصلة ما بين الخطابين: الخطاب الفلسطيني بكل أطيافه من جهة والخطاب الرسمي العربي من جهة ثانية، مما يعني أن الفكر السياسي الفلسطيني كان معطلا إلى حد خطير. وبات التساؤل عن مغزى وجود تعددية سياسية فلسطينية، مشروعا أمام ذلك التماثل والتماهي الغريب بين خطاب «حماس» و«الجهاد الإسلامي» مع خطاب حزب الشعب الفلسطيني أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وخطاب كل هؤلاء مع الخطاب الرسمي لبعض الأنظمة العربية.. كل ذلك يدل بما لا يدع مجالا للشك على أن هناك أزمة عميقة تعطل قدرة الفكر السياسي الفلسطيني على ابتداع وابتكار مساره الخاص.

ولا يمكن بأي حال تفسير ذلك التراجع والتردي لذلك الخطاب بإعادته إلى أزمة الفكر العربي والذي يعاني بدوره من ضحالة وفقر وجمود، وذلك لأسباب عدة: أولها، ان المجتمع السياسي الفلسطيني يتمتع بهامش واسع من الحرية، يتمثل بوجود تعددية سياسية تتيح له القدرة على التخيل والإبداع. وثانيها، أن منظمة التحرير الفلسطينية قد عانت طويلا من التدخل العربي المستمر في شؤونها، الأمر الذي يعني أنها لا بد أن تكون قد استخلصت من تلك التجربة العبر والدروس. وثالثها، يتمثل في طبيعة الصراع المباشر مع محتل متفوق في شتى المجالات يفرض عليها تحدي تجديد الفكر الفلسطيني بما يتلاءم مع خصوصية المرحلة التي تعيش.

لقد بدا الفلسطينيون وكأنهم قد تكلسوا أو تجمدوا في صقيع الخطاب الرسمي العربي، وانصاعوا طوعاً لأهداف ليست أهدافهم وتكتيكات تقودهم إلى عكس ما يرجون. الأمثلة على ذلك الانجرار الأعمى إلى مفاهيم الغير كثيرة. أحد أقطاب السياسة الفلسطينية علق عن الموقف الفلسطيني من المطلب الأميركي بشأن ضرورة إجراء إصلاحات قبل البدء بالتحدث عن حل للقضية الفلسطينية، بالقول: «ولكن ماذا لو قمنا بإصلاحات ولم تنفذ الولايات المتحدة تعهداتها؟». ولعل هذه الإجابة بحد ذاتها تلخص مقدار البؤس الذي وصل إليه العقل السياسي الذي بات يعتبر الفساد الذي كان مستشريا في مؤسسات السلطة الفلسطينية نوعا مميزا من أنواع الصمود الذي لا يجوز التفريط به؟ وهذا غيض من فيض على مدى عمق الأزمة.

ولعل مشكلة بؤس العقل الفلسطيني لا تقتصر ولم تقتصر على إيذاء الذات، بل تتجاوزها باتجاه إيذاء الآخر، هذا الآخر ليس بعض الأنظمة القائمة على الطغيان والاستبداد كما يمكن ان يتصور البعض، بل هو إيذاء بعض الشعوب العربية. والمتتبع لما ينشر في الصحافة المكتوبة ووسائل الإعلام المرئية ومن مواقف بعض التنظيمات الفلسطينية سيدهش إزاء ذلك التردي السريع والمخجل الذي أصاب ذلك التفكير. فالعقل السياسي الفلسطيني الحالي مثلا، يتصور أن الوضع الذي تعيشه شعوب المنطقة، وعلى ما يبدو فإن المهرولين وراء الشعارات البراقة التي تطرحها بعض الأنظمة العربية، لا يشعرون بأنهم، بانتهاجهم لمثل هذه السياسة، انما يفرطون بكل رصيدهم الاستراتيجي لدى تلك الشعوب. وفي كل الأحوال، لم يكن مطلوبا من الفلسطينيين كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان تأييد الاحتلال الأميركي للعراق. ولكن ما هو ليس مقبولا لدى أشقائنا العراقيين أن ينبري البعض منا للدفاع عن نظام فاشي حصد أرواح الآلاف من أبناء الشعب العراقي. وما ليس مقبولا أن يصمت اليسار الفلسطيني، كما الوسط واليمين، أمام مشاهد المقابر الجماعية في عراق صدام حسين والتي تكشفت بعد الاحتلال. وما ليس مقبولا أن نخفي عورات نظام ديكتاتوري ألحق بنا جسديا وسياسيا الأذى كما ألحق الأذى بشعبه. ما ليس مفهوما أن تخلع الحركة الوطنية الفلسطينية عنها ذاكرتها أمام شعبها وشعوب المنطقة، وأن تتخلى طوعا ودون أية فائدة عما جذب إليها وهي في بلدان الشتات، كل المتطلعين للحرية في العالم العربي. لقد استحقت م. ت. ف نتيجة لطرح جسدها الأساسي شعار إطلاق الحريات الديمقراطية للشعوب العربية، ليس التقدير والاحترام فحسب، بل مقاتلين انخرطوا في عملية النضال الفلسطيني ودفعوا معها ضريبة الدم. ولكن ما ليس بمقدور أحد فهمه هو كيف تسنى لهذا الجسد الفلسطيني وهو في المنفى، أن يحتضن ويضم بين صفوفه كل اللاجئين إليه من طالبي الحرية العرب وغير العرب، وما الذي حدث لكي تبدو السياسة الفلسطينية وكأنها تقف تماما على الضفة المعاكسة لتطلعات هذه الشعوب؟ أليست القضية الفلسطينية بما آلت إليه نتاجا موضوعيا ومنطقيا لحالة ذلك الاستبداد؟ أليست بعض الأنظمة التي يتم التظاهر لصالحها في الأرض المحتلة مسؤولة بصورة مباشرة عن خراب البيت الفلسطيني؟

مظاهر التراجع الفلسطينية أكثر من أن تعد وأن تحصى. كما أن الخسائر الفلسطينية هي أكبر مما قد يتصوره البعض. وإذا كان وصول أبو مازن إلى سدة الرئاسة الفلسطينية يعطي بعض الأمل بإعادة انتهاج سياسة متوازنة، فإن ذلك لا يعني أن السفينة الفلسطينية قادرة بربان واحد على العبور من المضائق الكثيرة والصعبة التي تنتظرها، وهي تحتاج حقيقة إلى ربابنة آخرين، تحتاج إلى فكر سياسي جديد مؤهل للقراءة الصحيحة لكل التغييرات التي استجدت في العالم.

* صحافية فلسطينية

مقيمة في فيينا