عندما يسخر طه حسين من توفيق الحكيم!

TT

لي كتاب اسمه «كرسي على الشمال»، ولا يوجد كرسي له معنى خاص، وإنما أنا الذي كان يجلس على الشمال في المسرح، اعتدت على ذلك، إلا إذا كانت المسرحية من تأليفي، فأنا أقف على باب المسرح مع المخرج لاستقبال المتفرجين أو في البنوار، حيث يجلس الوزراء والكبراء، والجلوس معهم عذاب، لأنهم طول الوقت يعلقون على كلامي أو على الممثلين، فلا يضحكون مثلاً في المواقف المضحكة، أو ينشغلون عن التمثيل بالكلام أو التعليق على أي أحد من المتفرجين، أو أية حادثة وقعت لهم، وكأنه لا مسرح ولا مؤلف ولا مخرج، ولذلك انسحب بعد دقائق من الجلوس معهم.

وفي نفس الوقت لا أنسى ما قالوا أو أحاول.

مرة واحدة جلست طوال العرض المسرحي في البنوار، وكان المتفرج العظيم هو طه حسين، وكانت المسرحية من تأليف توفيق الحكيم، وكان الحكيم حريصاً على أن أذهب مع طه حسين لأخبره في اليوم التالي ماذا أعجبه وماذا أغضبه، وكانت مسرحية «الأيدي الناعمة» بطولة عميد المسرح العربي يوسف وهبي، أما النص المسرحي فنعرفه نحن الاثنان، وتناقشنا فيه، وأعرف رأي طه حسين، ولكن عندما يتحول النص إلى حياة، فهذا هو الذي يهم أكثر.

وكان توفيق الحكيم قد طلب مني أن أعرف رأي طه حسين في عدة نقاط من المسرحية، أما رأي العقاد فقد نقلته إلى توفيق الحكيم، وهو لا يعجبه ما يكتب توفيق الحكيم عن مسرح العبث أو مسرح اللامعقول، وما أكتبه أنا عن الفلسفة الوجودية. ويرى العقاد أننا ننشغل بالكلام الفارغ، وأننا والشيوعيين نماذج مختلفة من الخلل العقلي والهروب بالفلسفة إلى العبث ـ كلام لا يعجبنا نحن طبعاً!

وكنت حريصا وأنا إلى جوار طه حسين أن أنقل إليه من الذي جاء وجلس بالقرب أو بعيدا عنا، أو من الذي يطلب مني أن أنقل تحياته إلى طه حسين، وكانت لطه حسين ابتسامة ساخرة، ولو كان فولتير حياً لضحك مثل طه حسين، ولا أعرف أحدا له مثل هذه السخرية الرقيقة إلا د. بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة سابقاً، وكان طه حسين يضيف إلى الابتسامة ضحكة ساخرة أيضاً، وأحياناً يضيف إلى الابتسامة والضحكة تعبيرا أشد سخرية.

بدأت المسرحية وتهيأ طه حسين للضحك، وكان يخفض رأسه إذا ضحك، ولم يكن الذي نراه يبعث على الضحك، ولكن كان من رأيه: أن (أخانا) توفيق يحاول أن يكون شخصاً آخر، فرنسياً يعيش في باريس، ولا علاقة له بالقاهرة ومصر واللغة العربية، ولذلك كان من رأيه أن الحكيم ألطف كثيرا من هذا الذي يجد نفسه مضطرا إلى كتابته لكي يجاري الأدباء الفرنسيين، وكان يقول إن مسرح العبث عند الحكيم ثقيل الدم، ولا يبعث على الضحك، واذا ضحكنا فعلى المؤلف وليس مع الممثلين!

ويقول طه حسين إن في فرنسا شعراء عبثيين ولكن دمهم أخف من ظلهم، أما توفيق الحكيم فهو ثقيل الدم والظل معا، هاها ـ هو الذي يضحك وأنا الذي في حيرة، فلا أعرف كيف أنقل كل هذه المعاني الساخرة أو الإشارات الرافضة إلى توفيق الحكيم من دون أن أفسد ما بين الأديبين الكبيرين، ولكن سوف أنقل إلى توفيق الحكيم مع أنني أرى ما يراه وأجد عذرا لطه حسين وللعقاد أيضاً، فهما ينتسبان إلى مدارس في الفكر مختلفة، فلا هما ولا نحن قد شردنا عن جادة الفكر السليم، ثم ما هي جادة الفكر؟

وفي الصباح الباكر جاءني هاتف من توفيق الحكيم: هه، قال ايه طه حسين، طبعاً مش عاجبه كل اللي أنا قلته، أنا عارف هوه عاوز واحد يقول 2 + 2 = 4، يقولها بصوت هامس وبصوت عال ويلحنها محمد عبد الوهاب وتغنيها أم كلثوم، ولكن لا يوجد في الدنيا شيء بهذا الوضوح ولا هذا المنطق، بلاش الدنيا، ان الانسان نفسه عقدة العقد وليس في السلوك الانساني هذه البديهيات وليس ضرورياً.

وسألني توفيق الحكيم، قلت له: كأنك كنت معنا، هاها.

هذا تلخيص مقال في أربعين صفحة سوف تنشره مجلة (التياترو) الايطالية بعنوان «عظماء: المتفرج والمؤلف والممثل»!