فواكه السياسة والقنفذ المسكين

TT

ظاهرة التجهم التي تطبع مجتمع علماء الدين هي شيء جديد، فقد كان الظرف والدعابة شيئان معتادان عند العلماء وفي كتاباتهم. والشعر لم يكن أبدا حكراً للماجنين، بل كان حاضراً باستمرار في مجالس الفقهاء والقضاة. لكن التجهم نادراً ما يفارق المجتمع السياسي الحديث، خصوصا مجتمع الدارسين والمتابعين للشأن السياسي من الأكاديميين والصحافيين والكتاب. ويكفي النظر إلى صفحات الرأي في الصحف لنرى التجهم صفة ملازمة للصياغة والتناول. وباستثناءات قليلة، فإننا اعتدنا ككتاب على قمع نوازعنا الأدبية ونحن نرصد تحولات السياسة. أساتذتنا كانوا يحذروننا باستمرار من الكناية التي تختزل وضعاً سياسيا، أو ذلك التشبيه الذي يرصد صفة شخصية لرئيس أو وزير. رسامو الكاريكاتير افلتوا من هذه الرصانة القاتلة بسبب طبيعة أدواتهم. وقد دفعنا ولا نزال ثمناً باهظاً نتيجة هذه القوانين الكتابية: صفحات الرأي تفقد قراءها باستمرار وتفقد تأثيرها السياسي على صناع القرار.

في السبت الماضي، في نهار مشمس في مدينة لندن، التقت مجموعة من الاختصاصيين الأكاديميين في كلية بيركبك لتتجاذب الرأي حول التحولات الراهنة في لبنان وسوريا وإيران. وقد بدأت الندوة بشكل اعتيادي بارد وصفي وتحليلي. لكن أحد المشاركين استحضر صورة أطلقها احد أفراد الإدارة الأميركية لسورية، حيث وصفها بأنها باتت فاكهة في متناول اليد. وقد شجعت الصورة الباحثين في داخل القاعة الجامعية الباردة للمزيد من الصور والتشبيهات التي تختزل أوضاعاً ما بلغة موجزة، أو بتكثيف ينقل المعنى لمستوى عقلي مختلف. خلع الاختصاصيون وقارهم وباتوا يتحدثون من دون رقيب لغوي. ولم يتوقف الأمر عند البلاغة اللغوية، فامتد للحكايات والقصص ورصد العثرات التي تفضح عالم السياسة كعالم كثيراً ما يشكله المغرورون الذين لا يدركون ما يفعلونه.

ونتيجة تأديب لغة السياسة، فإن الاقتراب من فهم الظاهرة قيد الدرس قد يكون أكبر، وقد يساعد أكثر قبل القفز العجول لوضع الحلول والعلاجات، وهو ما نرى الكتاب خصوصا في صفحات الرأي لا يخافون من الإقدام عليه، من دون أن يكونوا بالضرورة قد أوفوا التشخيص حقه.

من المهم ونحن نستعرض بعض الصور التي أطلقت في ندوة لندن، أن لا نتوقف عند الطرافة ونحاول التجاوب مع عملية الاختزال والتكثيف، بما يحملانهما من تعميق لفهم الحالة، أكثر من مجرد بعث الابتسامة على الوجوه.

استحضر باحث مشارك في الندوة قولاً للزعيم السوفياتي جوزف ستالين، رد فيه على سؤال حول ما يتوجب القيام به في الداخل الإيراني، للمحافظة على مصالح الاتحاد السوفياتي فكان جوابه: إيران تفاحة ساقطة لا محالة، وليس علينا أن نفعل شيئا للتعجيل بذلك، علينا فقط أن نكون قريبين في الجوار لنلتقطها.

بهذا التشبيه اختزل ستالين حالة تتكرر باستمرار في العلاقات الدولية، وتعود ربما لتشبيه دام طويلا في الأدبيات السياسية أطلق لوصف الدولة العثمانية في المائة سنة الأخيرة قبل سقوطها: «رجل أوروبا المريض»، والصورة تنطق بحالة الطامعين في تركة الرجل المريض: أنت ترغب في ممتلكاته لكنك لست مضطراً لتزهق روحه لتستحوذ عليها، عليك فقط أن تنتظر وهي ستأتي لك بنفسها. هذه حكمة عملية ينتجها رجال السياسة في معترك الصراع مع خصومهم. وتجاهل الأوضاع التي لا يريد أولا يستطيع رجل السياسة وضع حل لها اختزله نصح السياسي الأميركي «باتريك مونيهان» لتطبيق سياسة «التجاهل بلطف» benign neglect، لمواجهة ذيول الصراع بين البيض والسود في أميركا في نهاية الستينات. والانتظار السياسي هو أحد أسرار النظم التقليدية التي دائما ما تميل إلى ألا تفعل شيئا. لكن من الواضح أن فعل لا شيء يمكن أن يؤدي في ظروف ما إلى الهاوية، وهو ما يفسر كيف أن أكثر نظمنا العربية وكذلك نظام الشاه في إيران وهيلاسيلاسي في الحبشة تم إسقاطها لأنها كانت تنتظر وتنتظر وتنتظر.

إذا قفزنا إلى الوضع العربي الراهن فسنجد الأميركيين يصفون سورية بأنها باتت فاكهة دانية في متناول اليد، وهو تشبيه يرتبط بصورة أخرى ليس معلناً عنها بصراحة، لكنها لا تخفي على العين، مؤداها أن الفاكهة الدانية يمكن التقاطها في أي وقت، ووضعها في السلة الأميركية المحتوية على فواكه تم قطفها حديثاً: أفغانستان والعراق وتلك الثالثة التي تبرعت مثل صور الأفلام المتحركة بالقفز من تلقاء نفسها إلى داخل السلة ونعني ليبيا.

لكن القول حول الفواكه والتقاطها يخفي ثقة مبالغا بها إزاء ما يحدث في أفغانستان والعراق، والعجز برغم مرور سنوات عديدة عن تحقيق الأمن، وإخضاع القوى المعادية للوجود في السلة الأميركية.

باحث آخر في ندوة لندن وصف لبنان بأنها تشبه شجرة الميلاد أمام عين الولايات المتحدة. فحين تضيء الشجرة وتمتلئ بالأحداث ينتبه الأميركيون لوجودها، لكن حالما ينطفئ ضوء الشجرة الملون لا يلبثوا أن ينسوها... قد يكون التجاهل لطيفاً مبعثه تعقد الشأن اللبناني طائفياً، وقد يكون التجاهل غفلة غير مقصودة من جراء الصغر الجغرافي والسكاني لهذا البلد، لكن لا شك أن استمرار الحرب الأهلية لعقدين من الزمن يعكسان نجاحاً للقوى الإقليمية، وفشلاً للولايات المتحدة التي بذلت محاولة بائسة في مطلع الثمانينات للتدخل، ولكن ولأن أجندتها اسرائيلية بالكامل، فقد أطلقت عقال المقاومة ضدها بنجاح، حتى ولت الأدبار مع الإسرائيليين.

في آخر النهار اللندني تذكر باحث قول رئيس سوفياتي آخر هو خروتشوف، معلقاً على إرسال الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية لكوبا: لقد وضعنا قنفذاً في سروال أميركا!. لكن للأسف نجد بعد نصف قرن أن من يعاني من وطأة السروال هو القنفذ المسكين الذي راح ضحية صراع الكبار.