أحلام طفولتنا!

TT

ونحن أطفال لم نكن نعرف ماذا نريد. ولا حتى ماذا يريدنا آباؤنا أن نكون. لا عندنا وعي ولا عندهم وقت. وظللنا هكذا نهبا للشوارع والنواصي والمكتبات ولأنفسنا مثل القطط والكلاب.. ضالين مشردين ضائعين!

وكنا نلتقي كل يوم ونتمشى على النيل.. كنا خمسة، أحدنا يوناني الأصل والثاني ألماني والباقون مصريون. أحدنا صار قاضيا والثاني مؤلفا لكتب الأطفال وأنا.. وكنا قد وضعنا خطة. بلاش كلمة (خطة) هذه لأنها كلمة كبيرة لم يكن أحد يعرفها. اذن اقول اننا اتفقنا على ان كل واحد منا اذا فرغ من كتاب يجب ان يعرض علينا ملخصا له. وكنا نتبارى. ونتفق ونختلف. ولكن اتفقنا على ان ندخل الجامعة الأزهرية. لماذا؟ ربما كان عندي أنا سبب وهو أن واحدا من أعمامي كان أستاذا في الأزهر ولذلك كانت أمي تكرهه.. وتخشى ان يؤدي اعجابي به ان اكون شيخا. بينما ابن عمها وزير وابن خالها كان رئيسا لوزراء مصر. ولها أقارب أطباء ومهندسون.

اما الزملاء الباقون: فاليوناني كان في نيته ان يترجم اعمال افلاطون الى العربية، واما الالماني فكان يتمنى لو ترجم مؤلفات الشاعر الالماني جيته عن الشرق وعن القرآن.

ولما كبرنا وتباعدنا كانت لكل منا حرفة مختلفة، فالألماني صار مهندسا. واليوناني صار صاحب مطعم مثل أبيه وكل اجداده.. والباقون واحد صار رئيس محكمة والخامس صار اديبا للأطفال وكان جميل الصوت..

وفي مدينة هيرلبرج الجميلة في المانيا قابلت بالصدفة الصديق الألماني: ماذا تفعل هنا؟ قال: هل نسيت ان امي المانية. انا هنا أعمل وكيلا لإحدى شركات الحديد والصلب مع زوجتي التي تعمل مهندسة، واخي الأكبر الذي يعمل طبيبا، وامي التي تدير احدى مدارس الأطفال..

ـ والأزهر؟

ـ هذه أحلام الطفولة. ولو كانت في الازهر كلية للهندسة ملحقة بأحد مصانع الحديد والصلب فأنا مستعد ان اعود الى مصر فورا..

ـ وزوجتك؟

ـ اتركها. لعلك تستطيع اقناعها فهي ما زالت على دينها مسيحية!

وعرفت ان الصديق اليوناني موجود في شارع الدوران في فيينا. وانه يدير مطعما. ذهبت. رأيته. وأجلست اثنين من اطفاله على حجري. احدهما قد اتخذ اسمي. سألته: الازهر حلمنا القديم!

فقال: ذهبت أشهر إسلامي مع صديقنا الشيخ عبد السميع الغمراوي. ولكن..

ـ ولكن ماذا؟

ـ ولكن لم يصدقوا انني اريد ان اسلم. مع ان الدين يقول ان الله رب القلوب.. فلو قلت اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله. ولم اكن صادقا، فأنا مسلم.. ولكن الرجل الذي ذهبنا اليه أصر على ان اصلي امامه. فوعدته ان اتعلم. وقلت له انني مؤمن بعظمة الاسلام وحكمة نبيه وإني وإني.. فما كان منه الا ان قال: امش ياواد العب بعيدا!

تفرقنا. ولكن كأننا أصابع في كف واحدة. يجمع بيننا حبنا لمصر والأدب والفن والتاريخ. وفي بيت كل منا مكتبة.. تتصدرها الكتب العربية في كل موضوع وكل قضية. وفي بيت هذين الصديقين: ان الزوجة اصرت على دينها، اما الأب والاولاد فمسلمون. وإسلام حقيقي. وذهبت الأيام وتقلب الليل والنهار وقلوب وعقول الناس. وفي يوم دعيت الى فرح في مدينتي المنصورة، وقالوا فرح جماعي.. وكان من بين العرسان أقارب لي. وكانت المفاجأة المزدوجة السعيدة أن ابن الصديق الالماني تزوج ابنة الصديق اليوناني.. وانهما معا يملكان مدرسة ومطعما!

قلت: والازهر؟..

فقالوا اتفقنا على ان يذهب أولادنا الى الازهر مزودين كل واحد منهم بأربع لغات غير اللغة العربية!