برنارد لويس وإشكالات التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط

TT

آخر ما كتب المستشرق البريطاني ـ الأمريكي العجوز برنارد لويس حول الإسلام وإشكالات التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، هو الدراسة المنشورة في العدد الصادر هذه الأيام من مجلة «فورين آفيرز» (أهم مجلات الرأي والفكر في الولايات المتحدة). والمقال الذي حمل عنوان «الحرية والعدالة في الشرق الأوسط الحديث» هو في الأصل محاضرة ألقاها لويس في جامعة جورج تاون العريقة، ويندرج في سياق اهتمامه القديم بموضوعات الفكر السياسي الإسلامي قديمه وحديثه، وإن كانت أهمية المقال ترجع ارتباطه بحدث الساعة، الذي هو المشروع الأمريكي لإصلاح المنطقة الذي يشكل لويس نفسه مرجعيته الأيديولوجية والفكرية الأساسية.

ودون السعي لعرض مفصل للمقال ـ الذي سيثير لا محالة جدلا واسعا في الأدبيات العربية ـ نكتفي بالوقوف عند الأفكار الرئيسة الواردة فيه، مع تقديم ملاحظات مقتضبة على المقاربة العامة التي ينتهجها، وأبرز هذه الأفكار أربعة.

أولاها: العلاقة بين مفهومي الحرية والمساواة في التراث الإسلامي، من منظور تأكيد مركزية مقولة المساواة في النص والتجربة الإسلاميين، وغياب مفهوم الحرية بالمفهوم الليبرالي الحديث فيهما. ويذهب لويس إلى القول أن الإسلام عمل أكثر من غيره من الديانات على تأكيد مساواة البشر دون تمييز عصبي أو عرقي، على الرغم من الاستثناءات الخاصة بالنساء والعبيد وغير المسلمين، (وهي استثناءات مألوفة في السياق التاريخي الوسيط بل امتدت في الغرب الحديث كما تبين التجربة الأمريكية حسب لويس نفسه).

في حين أن مفهوم الحرية ظل محصورا في الدلالة الفقهية القانونية، (أي الأحكام المتعلقة بالفرد غير المستشرق)، ولذا طرح مشكلا نظريا ومعرفيا عند دخوله للساحة الثقافية العربية مع حملة نابليون (1798).

ولم يتم استيعاب مفهوم الحرية في النسق الثقافي الإسلامي إلا مع كتاب رفاعة الطهطاوي «تخليص الإبريز» الصادر عام 1834، الذي فسر الحرية بأنها مبدأ العدالة. فالحكم الصالح هو السلطة العادلة التي تساوي بين مواطنيها وتمنحهم حق الاختيار حسب مبدأ الشورى، وبذا وحّد الطهطاوي بين معيار الحرية في دلالته الليبرالية الحديثة ومقولة العدالة في مرجعيتها الإسلامية.

ثانيتها: يتأرجح النسق السياسي الإسلامي بين تقليدين يعودان لفجر الإسلام، هما من جهة التقليد الثوري الاحتجاجي ضد الاستبداد، والتقليد المؤسسي القائم على مبدأ طاعة ولي الأمر.

وقد تعايش التقليدان طيلة التاريخ الإسلامي، ونلمس تشابكهما في التراث السياسي الإسلامي الثري، بيد أن تقليد الطاعة ومهادنة السلطة قد تغلب في نهاية المطاف على تقليد التمرد والثورة، فأصبح من العصيّ وضع قيود على تسلط الحاكمين واستبدادهم، وسيطر هاجس الخوف من الفتنة على أغلب الفقهاء الذين خلصوا إلى أن مبدأ حفظ النظام واتّقاء الفتنة مقدم على مبدأ العدل والشورى.ومع ذلك، يلاحظ لويس أن في النسق الإسلامي مبادئ هامة قابلة للتوظيف إيجابيا في صالح تجذير القيم الديمقراطية داخل المجتمعات الشرق أوسطية، وأهمها: الأمر القرآني بالشورى والنظرة السلبية للاستبداد والظلم.

فالحكم في الإسلام يقوم على البيعة والتراضي والتشاور، ولئن كانت هذه المعايير لم تتبع دوما في التجربة التاريخية للمجتمعات الإسلامية، إلا أنها تظل هي أسس شرعية الحكم وإطار ممارسته.

ثالثتها: يرفض لويس مصادرة الجذور الثقافية للاستبداد الشرق أوسطي، أي ربطه بالخلفية الإسلامية، معتبرا أن هذا الاستبداد ليس امتدادا لتجربة تاريخية إسلامية، بل هو ظاهرة حديثة، مرتبطة باللحظة المعاصرة وبالتأثير الأوروبي.

فالنموذج الكلياني الشرق أوسطي المعاصر تشكل على مرحلتين:

مرحلة أولى بدأت بحملة نابليون وامتدت طيلة القرن العشرين، واتسمت بالمحاولات الإصلاحية التي قام بها حكام الدول الكبرى في المنطقة (سلاطين تركيا، وباشوات وخديوات مصر وشاهات إيران)، من أجل تدارك الأمم الغربية المتطورة. وقد انتهت تلك الإصلاحات إلى تحديث البنيات البيروقراطية والعسكرية للدولة دون انفتاح سياسي، فأفضت إلى مد السلطة الحاكمة بأدوات هيمنة وقمع ورقابة لم تكن موجودة، كما قضت على هوامش الحرية المتاحة سابقا للمجتمع الأهلي الذي انهار لأثر الخطوات التحديثية. مرحلة ثانية بدأت في الأربعينات، وتمثلت في اعتماد الأيديولوجيا القومية الصاعدة للنماذج السائدة أوانها في أوروبا من فاشية ونازية وستالينية، وهكذا وصلت أحزاب وتشكيلات سياسية تندرج في هذا النموذج للسلطة في العديد من البلدان العربية، ممارسة أقسى أنواع القمع والإقصاء والاستبداد.

رابعتها: يركز لويس في تتبعه لعوائق التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، على ثلاثة عوائق هي: النموذج الاستبدادي المستند للشرعية القومية، وغياب مفهوم المواطنة في النسق التراثي الإسلامي، وسيطرة المجموعات الأصولية على الشارع الإسلامي.

بيد أنه يشير إلى بعض مؤشرات الأمل الإيجابية من بينها: قيم المساواة والعدل والشورى التي ينضح بها التراث الإسلامي، والآفاق التي فتحتها ثورة الاتصالات الراهنة من إعلام فضائي وشبكات عنكبوتية، معتبرا أن نجاح التجربة العراقية سيكون حاسما في تسهيل النقلة المنشودة نحو الديمقراطية في العالم الإسلامي، لما يتمتع به العراق من ميزات استثنائية (بنية تحتية صلبة، نخبة متعلمة منفتحة على الخارج، حضور قوي للمرأة...).

فالانتخابات العراقية الأخيرة يمكن حسب لويس أن يكون لها تأثير في المنطقة لا يقل عن تأثير حملة نابليون التي أدخلت العرب للحداثة.

ويخلص لويس إلى القول ان الحرب العالمية الثانية فسحت المجال أمام تحول دول المحور المهزومة إلى الديمقراطية التعددية، في حين أدت نهاية الحرب الباردة إلى تمدد الديمقراطية إلى الجمهوريات الدائرة سابقا في الملك السوفياتي، وبقدر من الحزم والصبر يمكن للولايات المتحدة بعد انتصارها في العراق أن تدخل الحرية والديمقراطية إلى الشرق الأوسط.

إن هذه الدراسة الهامة التي لخصنا أفكارها الأساسية تستدعي ملاحظتين مقتضبتين:

أولاهما: غابت النغمة العدائية الاستفزازية المألوفة في كتابات لويس عن الإسلام في هذه المقالة التي سعت إلى إبراز العديد من الجوانب الإيجابية في التجربة الإسلامية الوسيطة، مع رفض ربط الظواهر الاستبدادية القائمة بالدين الإسلامي أو البيئة الثقافية والفكرية الإسلامية، ولا شك أن هذا التحول يقتضي التنويه حتى ولو ظلت بعض الأحكام والمواقف بحاجة إلى تمحيص وتدقيق (مثل المقارنة المتسرعة والخاطئة بين مفهوم المواطنة في التصور اليوناني ـ الغربي ومبدأ الولاء للأمة في التجربة الإسلامية).

ثانيتهما: نختلف مع لويس في قراءته الخاطئة (المتأثّرة دون شكّ بميوله الصهيونية) للمشروع القومي العربي، الذي اختزله في أسوأ صيغة (البعث المتأثر بالنازية والستالينية)، في حين يرتبط هذا المشروع بديناميكية التحديث العربي في جوانبها التنويرية والإصلاحية، كما تؤكد أعمال رواده من أمثال الكواكبي صاحب الكتاب المشهور «طبائع الاستبداد» الذي يعتبر أول محاولة لتبيئة وتثبيت القيم الليبرالية الحديثة في المنظومة الفكرية العربية.

بقي لنا القول ان رهان لويس على النموذج العراقي لإصلاح المنطقة، وربط مستقبل أوضاعها بهذه التجربة ذات الخصوصيات المعروفة التي تمر بمخاض عسير وخطر، هو في حقيقته رهان هش، حتى ولو كنا نوافقه أن زلزال العراق كان له دور حاسم في تحريك أجندة الإصلاح المعطلة في الساحة العربية، من حيث لم يقصد ولم يشر.