عيد النصر .. أهميته ودروسه

TT

في 9 مايو جرت في روسيا وكثير من بلدان العالم احتفالات شعبية بمناسبة الذكرى الستين للنصر على الفاشية في الحرب العالمية الثانية. وجرى احتفال واسع النطاق على الاخص بهذه المناسبة في موسكو. وجاء زعماء حوالي ستين دولة الى العاصمة الروسية بالذات للمشاركة في الاحتفالات. وهذا يعكس، بلا ريب، الاعتراف العالمي بأن الفضل الرئيسي في تحقيق النصر على المانيا الفاشية يعود الى الاتحاد السوفياتي وجيشه والشعب السوفياتي بأسره. لقد فقد الاتحاد السوفياتي في الحرب حوالي 30 مليون انسان سواء في ساحات القتال، أو في المناطق التي احتلها الفاشست ام بنتيجة قصف المدن والقرى الأمنة. ولم تتكبد مثل هذه الخسائر الجسيمة في الحرب اية بلاد اخرى. لقد دمرت الحرب مناطق واسعة من الاتحاد السوفياتي، علما انها كانت المناطق الاكثر تطورا من الناحية الاقتصادية. لكن الاتحاد السوفياتي صمد وانتصر على الجيش الهتلري الذي كان يعتبر من اقوى الجيوش في العالم، والذي هاجم الاتحاد السوفياتي في 22 يونيو عام 1941 واحتل اوروبا كلها في غضون عدة أشهر عمليا.

طبعا، لقد اسهمت الولايات المتحدة وفرنسا وبلدان اخرى برصيدها في تحقيق النصر، بيد انه كان اقل بكثير من اسهام الاتحاد السوفياتي فيه. ويكفي القول ان الجيش الفاشستي تكبد ثلثي خسائره في جبهات القتال مع الجيش السوفياتي. وبعد ان رفعت الراية الحمراء فوق مبنى الرايخستاغ في برلين، واستسلمت المانيا الهتلرية بلا قيد او شرط، بدا للكثيرين ان السلام سيكون وطيدا الى الأبد، وان الحروب والضحايا الجسيمة ومظاهر الدمار الرهيب قد ولت مع الماضي. لكن لم يحدث ذلك. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت فترة «الحرب الباردة» الخطر، حين اقترب العالم اكثر من مرة فعلا من عتبة الكارثة النووية لدى احتمال حدوث اشتباك شامل تماما في ذلك الوقت بين الدولتين الاعظم اي الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وتوفر لدى المجتمع الدولي والقوى الديمقراطية الوعي الكافي من اجل وضع حد «للحرب الباردة». ويمكن اعتبار ذلك الانجاز الرئيسي الذي تحقق في غضون 60 عاما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

بيد ان هذا التطور الهام جدا في تاريخ العالم لم يكن يعني بعد، ولا يعني انتهاء النضال ضد التحديات والاخطار المخيمة على العالم، بدليل استمرار النزاعات الاقليمية ومن أكثرها خطرا نزاع في الشرق الاوسط وطغيان الارهاب، والخطر الماثل في انتشار اصناف الاسلحة النووية وغيرها من اسلحة الدمار الشامل مع احتمال استخدامها مستقبلا في النزاعات الاقليمية او في العمليات الارهابية، فيما يتواصل وجود الهوة الاقتصادية بين البلدان الصناعية المتطورة وبقية بلدان العالم جميعا، والتي تغذي هذه التهديدات والاخطار.

وينبغي التأكيد على ان هذا كله يواجه العملية المعقدة للغاية في اقامة نظام عالمي جديد. ولقد حدثت بنتيجة النصر على الفاشية الالمانية والنزعة العسكرية اليابانية تغيرات استراتيجية في الوضع الجيوبوليتيكي في العالم. ونذكر منها انهيار النظام الاستعماري وقيام عشرات الدول المستقلة الجديدة، وتطور العمليات التكاملية في اوربا، حيث تشكل الآن مركز عالمي قوي جديد هو الاتحاد الاوروبي، واستقلال الصين التي تمضي حاليا قدما الى الامام بخطوات واسعة، وتذهل العالم بنجاحاتها الاقتصادية، وصيرورة الهند بصفتها مركزا عالميا مستقلا، بعد ان تحررت من قيود الاستعمار.

من جانب آخر حدثت تغيرات جيوبوليتيكية ترتبط بـ «الحرب الباردة» وانتهائها. ونذكر منها، حسب رأيي، تفكك الاتحاد السوفياتي. وطبعا ان وريثته أي روسيا اضعف من الاتحاد السوفياتي، لا سيما من الناحية الاقتصادية. لكن بما ان روسيا بلاد كبيرة مترامية الاطراف، وتمتلك ثروات طبيعية ضخمة وقدرة نووية تعادل قدرة الولايات المتحدة، فإنها تبقى بكونها لاعبا نشيطا على الصعيد الدولي، ومركزا عالميا مستقلا.

وتدل كل هذه الامور مجتمعة على حدوث عمليات معقدة في اعادة بناء النظام العالمي بعد الحرب. ولا يراودني الشك في ان اقامة عالم متعدد الاقطاب يعتبر اتجاها موضوعيا ورئيسيا، يرتكز على تباين درجات تطور الدول والمناطق المختلفة.

لكن هل يمكن الاعتقاد بأن اقامته الآن بعد انتهاء «الحرب الباردة» ستتم بلا مشاكل؟

طبعا، لا. وتكمن القضية في انه بدأ على تخوم القرنين العشرين والواحد والعشرين الصراع بين اتجاهين: فمن جانب التوجه نحو اقامة العالم المتعدد الاقطاب، ومن جانب آخر التوجه نحو اقامة نظام وحيد القطب يكون مركزه في الولايات المتحدة، التي تحاول فرض «قواعد السلوك» لجميع الاطراف الاخرى في الاسرة العالمية.

لقد اعلنت واشنطن «عقيدة الطرف الواحد» التي تقضي بأن تعالج الولايات المتحدة من جانب واحد مهمتين بالنسبة الى الفترة الراهنة من تطور العلاقات الدولية هما: ضمان أمن المجتمع الدولي ونشر الديمقراطية في العالم بأسره. وتظهر المغامرة الأميركية في العراق عواقب تطبيق هذه العقيدة، حيث نفذت ضده عملية عسكرية أميركية خلافا للواقع (اعترفت الولايات المتحدة الآن بأن العراق لم يمتلك السلاح النووي ولم تكن لديه ارتباطات بتنظيم «القاعدة» الارهابي) ومن جانب واحد وبدون صدور قرار عن مجلس الأمن الدولي.

ويبدو جليا للعيان بالنسبة الى المراقب الموضوعي ان من الصعب التعويل على استقرار الوضع في هذا القطر العربي في الفترة القريبة المقبلة، وعلى ابعاد الخطر على وحدة أراضيه، وتحويل العراق الى رأس جسر آخر لمكافحة الارهاب. ففي هذه الظروف عن اية ديمقراطية يمكن الحديث؟ ومن بين الاخطار المخيمة في الفترة الراهنة على الوضع الدولي ايضا المحاولات لتقسيم العالم وفقا للانتماء الحضاري والديني. ان النصر على الفاشية قبل 60 عاما مضت وانتهاء «الحرب الباردة» بين النظامين العالميين ـ الاشتراكي والرأسمالي قد وضعا حدا الى الابد لتقسيم العالم على أساس ايديولوجي. والآن يتحدث الكثير من أهل السياسة والعلم في البلدان الغربية ويكتبون ان العالم ينقسم الى اناس غير مسلمين ومسلمين. ويذكرنى هذا الموقف بالايديولوجيا الفاشية التي كانت تبشر بفكرة عنصرية مفادها ان العالم ينقسم الى شعوب آرية وبقية الشعوب الأخرى. ويجب على من يبشر بالنزعات المعادية للاسلام ان يفكر في النهاية المشينة «للمنظرين» الفاشيين الذين جرى سحقهم ودفنهم الى الابد قبل 60 عاما مضت.

* رئيس الوزراء الروسي الأسبق خاص بـ «الشرق الأوسط»