منخفض سياسي عبر أجواء الأردن.. بدون خسائر فعلية..!

TT

عبر أجواء الأردن، في الأيام القليلة الماضية، منخفض جوي سياسي وقد أرعد وأزبد لكنه بالنتيجة لم يترك أي أثر في المناخ الأردني السائد، الذي يتميز دائماً بعدم الاقتراب من الخطوط الحمراء، والذي بقي يتخذ، منذ ان بدأت عملية التحول نحو الديموقراطية في عام 1989، طابع الخلاف والصراع ضمن الوحدة، وتغليب الأساسي على الثانوي، وتقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية.

لقد بدأت القصة عندما برز تأثير ما يسمى «الفريق الاقتصادي» في الحكومة الجديدة، التي خَلَفتْ حكومة رئيس الوزراء السابق فيصل الفايز، والتي مضى على تشكيلها حتى الآن نحو شهرين، فقد أعتبر بعض تجار تسويق التقارير الإصلاحية في الأسواق الغربية، وسوق الولايات المتحدة على وجه التحديد، ان قفز هذا الفريق، أي الفريق الاقتصادي، الى الواجهة دلالة انتصار تيار أردني على تيار آخر في معركة هي في حقيقة الأمر غير موجودة.

ثم بعد ذلك بدأت تظهر في الصحف الأردنية وفي بعض الصحف العربية التي تصدر من بعض العواصم الغربية، مقالات تتحدث عن بروز تيارين أردنيين متناحرين ومتصادمين، تيار محافظ يشد الى الخلف وتيار إصلاحي ـ ليبرالي يدفع الى الأمام، وبدأ بعض الذين ركبوا موجة الإصلاح هذه، لتسويق أنفسهم في الداخل وفي الخارج، يتحدثون عن توترات اجتماعية متصاعدة، وعن ان البلاد مقبلة على تغييرات جذرية ستطال الدستور وطبيعة الحكم والخريطة السياسية الحالية كلها، بما في ذلك مجلسا الأعيان والنواب والأجهزة الحساسة في الدولة.

وهنا وحتى تكون الصورة بالنسبة لهذا الأمر أكثر وضوحاً، فلا بد من الإشارة الى وجود نحو أربعين مركزاً وهمياً تعمل كلها تحت لافتة «مؤسسات المجتمع المدني» ولقد دأب عدد من هذه المراكز على تزويد بعض المؤسسات الغربية والاميركية بتقارير دورية حول حال الحريات العامة، وحول الديموقراطية في البلاد، مقابل دعم مالي اتخذ أشكالاً متعددة، وبالطبع ولضمان استمرار هذا «الدعم» فإن هذه التقارير كانت ولا تزال ترسم صورة سوداوية عن الأوضاع الداخلية الاردنية.

لقد كان وجود هذه المراكز والهيئات سابقاً لكارثة الحادي عشر مــن سبتمبر (أيلول) عام 2001، وكانت أنشطتها في تلك الفترة السابقة تتم في مساحة ما قبل الخطوط الحمراء، اما بعد ذلك، وبعد ان رفع الرئيس الأميركي راية الإصلاح في الشرق الاوسط، كجبهة من جبهات الحرب على الإرهاب، فقد أصبحت الأمور تتخذ مساراً خطيراً، وبدأ الذين ركبوا هذه الموجة يستغلون المناخ العام في المنطقة كلها، للمس بما يعتبره الأردنيون ثوابت لا يجوز الاقتراب منها أو المس بها.

وهكذا ولأن بضاعة «الإصلاح» غدت رائجة وبخاصة في الأسواق الاميركية، فقد وصلت «شجاعة» هؤلاء الى حدِّ أنهم أخذوا يهزون السيف الأميركي أمام أنف كل من يخالفهم الرأي، والى حد أنهم باتوا يطالبون بإعادة النظر بالدستور الأردني وتغيير الكثير من الأسس التي تقوم عليها وتستند إليها الدولة الأردنية، وهذا أدى الى ردات فعل معاكسة تمثلت في جانب منها في الموقف الذي اتخذه البرلمان الأردني من الحكومة الجديدة، مع ان هذه الحكومة بريئة ولا علاقة لها بهذا الشأن. والخطورة في هذا الأمر ان هذه المجموعة التي هي مجموعة هامشية جداً، والتي ليس لها أي عمق اجتماعي، قد بادرت. كتابةً وتصريحاتٍ وتحركاتٍ، الى ما أعطى انطباعا أنها هي التي وقفت وراء التغيير الحكومي الأخير وان «الفريق الاقتصادي» الذي صبغ بصبغته الحكومة الجديدة هو فريقها، وأنها تنطق باسمه وتقوم بما تقوم به بالتنسيق معه. وخلال فترة هذين الشهرين الماضيين تعمَّد العاهل الاردني، الذي هو رافع راية الاصلاح الحقيقي في الاردن، والذي حقق خلال الاعوام الستة الماضية من عهده انجازات كبيرة في هذا المجال، ومراقبة الأمور عن كثب ولكن بدون أي تدخل مباشر، فلقد كان يعتبر ان هذا الخلاف وأن هذا الجدل ظاهرة صحية، مادام انه يجري في إطار الوحدة، وما دام ان الجميع يقولون ان الهدف هو خدمة الأردن وتقدمه ومتانته الاقتصادية.

لكن وعندما بدأت الأمور تتخذ اتجاهات سلبية، وعندما بدأ الأردنيون يشعرون بالخشية على ما يعتبرونه ثوابت لا يجوز المس بها، لا باسم الإصلاح ولا باسم الليبرالية، تحرك العاهل الأردني في اللحظة المناسبة تماماً، وحسم الأمور بمنتهى الحزم والجدية، وأعلن ان الدستور في هذه المرحلة خط أحمر، وان التوطين مرفوض لأنه مضر بالأردن وبالقضية الفلسطينية، وأن الأولوية بالنسبة للإصلاح هي للاقتصاد ووضع الطعام على مائدة كل عائلة أردنية. لم يتخذ العاهل الأردني موقف الانحياز الى طرف ضد الطرف الاخر، ولكنه وضع الامور في أنصبتها عندما أكد ان الاصلاح لا يخص الفريق الاقتصادي وحده، ولا هذه الحكومة دون غيرها، وأن المسيرة الاصلاحية لم تبدأ الآن، بل بدأت في عام 1989 عندما بدأت عملية التحول نحو الديمقراطية، وأن الشعب الأردني كله إصلاحي ويريد الإصلاح، وان الجميع فريق واحد ولا يوجد تياران أحدهما يشد الى الخلف والآخر يشد الى الأمام.

إنه منخفض جوي سياسي عبر الأجواء الاردنية بسرعة وبدون أضرار كثيرة وكبيرة، وهو منخفض سيتجدد بالتأكيد، لأن القوى الهامشية الداخلية التي تتعايش على تسويق التقارير «الإصلاحية» في السوق الأميركي وفي الأسواق الغربية لن تتوقف، ولأن هذه القوى، المستقوية بدوائر أميركية مصابة بعمى الألوان. لا يوجد في الاردن تياران متصارعان أحدهما ليبرالي والآخر محافظ، والأردنيون كلهم أيدوا عملية التحول نحو الديموقراطية التي كانت انطلقت في عام 1989، وكلهم مع برامج الإصلاح التي حققت إنجازات كبيرة خلال الأعوام الستة الماضية في مجالات التعليم والاقتصاد والإصلاحيات الإدارية والتنمية السياسية والتعددية الحزبية، ولهذا فإن كل ما يقال ويصل الى الدوائر الغربية والاميركية في هيئة تقارير ومقالات، ليس له أساس من الصحة، وهو مفتعل وتقف خلفه «أجندات» شخصية.

إن مخاوف الأردنيين تكمن في ان البعض من اصحاب «الأجندات» الخاصة يحاول استغلال مسيرة الإصلاح المستمرة والمتواصلة، التي تؤيدها غالبية الشعب الأردني، من اجل المس بالثوابت الاردنية ومن أجل افتعال صراع اجتماعي، وزعزعة بلد قدره ان يكون جغرافياً في هذه المنطقة الواقعة بين ألسنة الحرائق ودوي الإنفجارات.