أكراد تركيا وجرح أنقرة الغائر: من كفاح الجبال إلى الاحتكام لأوروبا

TT

ليست قليلة تلك التحولات التي شهدتها الحركة الكردية بتركيا في الأعوام الأخيرة، رغم توقع الكثيرين أن ضربة قاضية قد وجهت للحركة باعتقال زعيمها المعروف عبد الله أوجلان مؤسس حزب العمال الكردستاني ب ك ك على يد القوات التركية في نيروبي فبراير 1999، والحكم عليه بعد 6 أشهر تخللتها محاكمة سريعة بالإعدام ـ وهي العقوبة التي لم تطبق أبداً في تركيا منذ عام 1984، إلا أن قضية أكراد تركيا استمرت تعلن عن نفسها بطرق مختلفة غير العمليات العسكرية التي ارتبطت بها ضد الجيش التركي، كما أن اسم أوجلان نفسه والذي يقبع بسجن هو نزيله الأوحد بجزيرة اميرلي، استمر في التردد إعلاميا بين الحين والآخر، ففي عام 2001 خفف عنه حكم الإعدام للسجن مدى الحياة، انسجاما مع توقيع تركيا في أغسطس من العام ذاته بإلغاء عقوبة الإعدام لتصبح مهيأة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وفي المؤتمر الثأمن لحزب العمال الكردستاني 2002 تم اتفاق أعضائه على تغيير اسمه إلى «مؤتمر الحرية والديمقراطية الكردستاني ـ كاديك» معلنين إنهاء النضال المسلح ومطالبين حكومة أنقرة بتوسيع نطاق الحقوق الثقافية للأكراد، وهو تراجع كبير في سقف مطالب الحزب الذي طالما دعا لاستقلال كل أجزاء كردستان بالشرق الأوسط تمهيداً لتكوين «كردستان الكبرى». ولم تكن خطوة وقف العمل العسكري وليدة اعتقال أوجلان فقط، بل تفعيلا لأكثر من هدنة أعلنها الرجل في عقد التسعينات ولم تلتزم بها أنقرة، وآخرها ما أعلنه أوجلان بنفسه أثناء محاكمته وقبلها بأشهر عندما خرج من سوريا وحط بروما وعواصم غربية أخرى، كضيف نصف مرحب به، قبل أن تغلق بوجه طائرته كل مطارات العواصم الأوروبية ليجد نفسه يحط في نيروبي فتقتنصه المخابرات التركية بكل سهولة، ومنذ اعتقاله واصلت وكالات الأنباء ترجمة تصريحات أوجلان وكتاباته المطولة التي يسربها لمحاميه ممن تتاح لهم فرصة لقائه، مثلما واصل ب ك ك تواجده بكردستان العراق، لكنه دخل في مواجهات مع الاتحاد الوطني الكردستاني ـ حليفه السابق ـ بعد أقل من عام على اعتقال زعيمه، وكررت تركيا غير مرة الإعلان عن نيتها التدخل العسكري بشمال العراق لتتبع فلول الحزب المذكور، رغم أن من تبقى منهم لم يزد عن 5 آلاف تركزوا شبه محاصرين في منطقة محدودة بجبال قنديل الوعرة بكردستان العراق.

ولازال أوجلان محافظا على سياسته في استغلال التناقضات الإقليمية والدولية لأنقرة، فبعد أن وظف عداءها مع دمشق فوفرت له الأخيرة ملاذا أمناً لأكثر من 17 عاما، متغاضية في الآن نفسه عن اشتراك كثير من أكرادها في عمليات ب ك ك العسكرية بتركيا، ومستفيدة من إلهاء شبابها بالكفاح خارج الحدود، ومثلما وظف أوجلان صراعات الحزبين الكبيرين بكردستان العراق بالتسعينات مثبتا لحزبه قواعد ودوراً هناك، ها هو أوجلان يعاود توظيف حالة التأرجح والنفور في علاقات أنقرة والاتحاد الأوربي، تماما مثلما كان يفعل من قبل، فيصرح في فبراير من العام الماضي أنه سيقدم مذكرة دفاع إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في مايو، وركز على الجانب المنظومي ـ الإيديولوجي (وهو جانب أثير لدى أوجلان إذ يظهر ولعه بالتنظير في كثير من أدبيات حزبه، ومثلما حدث في مرافعته أمام المحكمة التركية بعد اعتقاله التي وصل المكتوب منها لنحو ألف صفحة حسب ترجمتها العربية، والتي حملت اسما رناناً هو : من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية)، وأفسح مساحةً لوجهة نظره فيما يتعلق بالعلاقات التركية ـ الأوروبية الحالية، والعبارة الأخيرة فهم منها أن أوجلان جاد في تحويل صراعه مع الحكومة التركية إلى المحافل الأوربية، التي طالما انتقد في السابق بيع بعض حكوماتها ـ بالأخص الحكومة الألمانية ـ الأسلحة لحكومة أنقرة لتستخدمها ضد أبناء جلدته من المدنيين الكرد، وهو الانتقاد الذي كان يجد دوماً صدى كبيرا في الشارع الأوربي الذي يحمل تجربة مرة لحربين عالميتين، والرافض لتورط حكوماته في حروب خارجية تطال مدنيين.

ويبدو أن إعلان أوجلان الاحتكام لأوروبا استلزم بعض السياسات على أرض الواقع من حزبه، فكان أن قام بعد شهر واحد من هذا التصريح شقيقه الأصغر عثمان أوجلان بتسليم نفسه مع 13 من قادة الحزب إلى قوات «البيشمركه» الكردية ومنها لقوات التحالف الأميركي في شمال العراق، داعيا الأكراد في كل من ايران وسوريا والعراق وتركيا إلى العمل السلمي لنيل حقوقهم منهيا بذلك أي علاقة له بالجناح المنشق الأكثر ثورية بالحزب، والذي يقوده جميل باييك الموجود أيضا بجبال قنديل، والذي لا يرى في سياسات أنقرة القامعة لحقوق الأكراد أي تحسن يعفيه من الكفاح المسلح ضدها.

وكبادرة لحسن نية أنقرة أمام مطالب الاتحاد الأوربي وبعد أن قبلت أنقرة المعايير الأوروبية عام 2003 التي تسمح بإعادة محاكمة أي شخص أو جهة لدى طلب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ذلك، أعيدت محاكمة البرلمانية الكردية المعروفة «ليلى زانا» ورفاقها الثلاثة بعد عشر سنوات في سجون تركيا وأطلق سرحها في يونيو من العام ذاته، لكن أنقرة حصنت نفسها ضد أن ينطبق السيناريو ذاته على غريمها أوجلان، فاستثناه البرلمان التركي من إعادة المحاكمة، رغم وجود المادة 90 من دستور البلاد التي تنص على أن قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تعلو القوانين التركية الوطنية، فيما فازت الشابة الكردية المتجنسة بالألمانية «فلك ناز» لخمس سنوات أخرى بمقعد في البرلمان الأوروبي في العام ذاته 2004 .

مضى عام 2004 ولا زالت المسألة الكردية بتركيا تستفيد بصورة أو أخرى من معطيات أوربا الجديدة، وعبثا حاولت تركيا التأكيد هذا العام أن ب ك ك لا زال يقوم بأعمال عسكرية مناهضة لسيادتها، إلى حد أن صرح في 13 مارس 2005 قائد القوات البرية التركية الجنرال يشارنيوك أنط عن «تزايد ملحوظ في عمليات تسلل المسلحين الأكراد من شمال العراق لتركيا في الأشهر الخمسة الأخيرة، ووصل عددهم داخل الأراضي التركية إلى العدد نفسه الذي كانوا عليه عام 1999 قبيل اعتقال أوجلان»، وهو تصريح لم يصدقه أحد حتى داخل الأوساط المحافظة واليمينية بتركيا، بل وصرح كمال بياتلي رئيس وكالة الأنباء التركية لهيئة الإذاعة البريطانية في مايو الماضي معقباً على أخبار تطويق 10 آلاف عسكري تركي لبعض المدن الكردية ببلاده، بأن الرقم مبالغ فيه، مما يعني أن محاولة تركيا تصوير قوة حزب العمال على أرض الواقع حالياً هو مجرد تلويح بأنها في مواجهة مع خطر إرهابي، تماماً مثل أميركا بعد الحادي عشر من سبتمبر، ولكن أحدا لن يصدق هذا، خاصة أن تركيا عارضت استخدام أميركا أراضيها ولقاعدة انجيرليك في غزو العراق وبالتالي فإن دعاية تركيا قد لا تجد من يساندها حتى في واشنطون.

وقبل أيام أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قرارها النهائي في شأن قضية الزعيم الكردي المعتقل في تركيا عبدالله أوجلان. وجاء في حيثيات القرار أنّ «المحاكمة التي أجريت للسيد أوجلان في تركيا عقب اختطافه في كينيا عام 1999 كانت غير عادلة». وان أوجلان تعرض بعد اختطافه لمعاملة غير لائقة تحط ـ وفق المعايير الحقوقية الأوروبية ـ من الكرامة الإنسانية، واستبق هذا الإعلان بيوم واحد دعوة من أوجلان، اختار لها صفحات أوزجور بوليتيكا الجريدة اليسارية، التي أغلقت غير مرة بقرار حكومي تركي، لتعاود الإصدار مستفيدة من الأجواء الإعلامية المنفتحة في أوربا «وهو اختيار له دلالته، ليدعو» انه مستعد للدخول في مفاوضات مع الحكومة التركية في حال إطلاق سراحه بعد إعادة محاكمته، وسيستغل إعادة محاكمته إذا تمت إعادتها إلى حل ديمقراطي للمسألة الكردية»

وفي انتظار الرد التركي يبقى التأكيد على أن الورقة الأوروبية التي استغلها أكراد تركيا، قد نجحت على الأقل في وضع أنقرة بموقف لا يحسد عليه أمام الاتحاد الأوروبي الذي تتطلع لعضويته منذ سنوات ويجابه طلبها كل مرة بمطالب الإصلاح الاقتصادي والسياسي، لكن هذه المرة المطلب محدد واضح، وربما ستفكر ألف مرة قبل أن ترفضه لأنه سيعني إغلاق ملف عضويتها تماما في الاتحاد الأوربي. وجها لوجه أمام ظاهرة التحرش الجنسي..!