ماذا تصدّق

TT

في السبعينات كنت أراسل «النهار» من نيويورك. وذات مرة اتصل بي عضو إحدى المؤسسات اللبنانية ذات الطابع العالمي ودعاني إلى العشاء. ولم أكن اعرف الرجل. ومنذ اللحظة الأولى ترك انطباعاً سريعاً. محدث مفحم وسيرة طويلة وشخصية قريبة الى القلب. لكن بعد نصف ساعة من اللقاء راح الجوُّ ينقلب. إنه يريد إطلاعي على وثائق تتعلق بالمؤسسة. وفيها سرقات وتعديات. وبطل هذه الأعمال معروف. ثم رمى الأوراق أمامي. ووعدت بأن أدرسها. وبعد أسابيع اتصل بي رجل أعلى منه شأناً وأشهر اسماً في المؤسسة، وقال لي «لم نقرأ شيئاً في «النهار» حتى الآن». وأجبت بأنني منهمك في متابعة دورة الجمعية العامة. وسوف أقرأ الأوراق في أول مناسبة. وبعد أسبوعين دعتني مجموعة من أعضاء المؤسسة الى لقاء. واتخذوا مواقعهم بوقار. وشرحوا أن المسألة قضية وطنية لا بدَّ أن تثار وتتابع. وأن «النهار» هي المنبر الأفضل.

عدت إلى بيروت من دون أن أقرأ سطراً واحداً في تلك الأوراق. فقد رميتها منذ اللحظة الأولى في سلة مهملات. إذ كيف لي أن أشهّر بإنسان لا أعرفه، وأن أصدق رجالاً لا أعرفهم، وأن أقحم صحيفة راقية في قضايا ثأرية. وبعد عام أو أكثر جمعتني الصدفة مع الرجل المتهم في غداء اجتماعي. وكان يعرف بالتأكيد ماذا حدث. وعندما تقدم يسلّم عليَّ رأيت في وجهه ملامح الشر وفي عينيه وقاحة السراقين وفي مظاهره فقاعة الحرامية. وبعد دقائق انصرفت الى حلقة أخرى. وعاد يحاول أن يفتح حواراً لينتهي الى القول إنه يريد أن يشكرني. لكنني أغلقت الحوار ومضيت تضايقني ملامحه الإجرامية. فقد كان يفترض في من هو في موقعه أن يبدو كسيّد، لكنه كان يبدو كمرافق لدون كوريليوني في فيلم «العراب».

بعد سنوات قليلة جاء نعيه، وكنت أتدارس أخبار الصفحة الأولى مع مدير التحرير فرنسوا عقل. وجاء ذكر الرجل. وسألني «المدير:«هل عرفته؟». قلت: لقد عرفته وعرفت أخباره لكنني أخفيتها عن الجريدة.

وقال فرنسوا: «كنا نعرف ذلك منذ زمن. وقد جاءنا هو بنفسه ذات مرة وأخبرنا أن المؤسسة أعطتك وثائق للنشر. ولا تعرف كم قدَّرنا فيك أنك لم تقحم «النهار» في قضية تفوح منها روائح الجميع».

كنت قد تعلمت الدرس باكراً في الصحافة: تتهم الرجل على الصفحة الأولى في إثارة جماعية وتنشر خبر براءته في زاوية داخلية لا يقرأها احد. والتهمة تنزرع في الذاكرة أكثر من البراءة. لأن التهمة تعني الجميع، أما البراءة فلا تعني سوى صاحبها. وأكرمني ربي أنني تنقلت في صحف ومجلات كثيرة، كان القيمون عليها جميعاً يضعون الحقيقة وكرامات الناس قبل أي شيء آخر. وذات مرحلة أشرفت على صحيفة يومية معتبرة في وقت اشتدت فيه المنافسة. وكان مديرها العام صديقاً ودوداً، فقال يوماً بين معاتب ومحاسب «لا نريد هدوء «النهار». انه غير مفيد هنا. نحن نريد إثارة الـ....».

قمت من وراء مكتبي وقبلته في جبينه وقلت له: «إذا كنت تريد إثارة الـ... فتعاقد مع مدير تحريرها». ولحق بي الى المصعد، يقبلني هو أيضا في جبيني، ويعتذر.

إلى اللقاء